بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (144).
(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:276-281].
(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا) المحقُ: الإزالةُ والإذهابُ، ومحقُ الرّبا زوالُ المالِ المتحصّل عليه مِن الرّبا، أو زوالُ بركتهِ، وهو عقوبةٌ دنيويةٌ للمرابي بزوالِ مالِه، قبل عقوبةِ الآخرةِ، التي تقدمت في قولهِ: (وَمَن عادَ فَأُولئِكَ أصحابُ النّارِ هم فيهَا خالدُونَ) (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ويزيدُ في المال المتصدق به، والزيادة في المال المتصدق به هي أيضًا زيادة دنيوية وأخروية؛ الدنيوية بزيادة المال الذي خرجت منه الصدقة، فيكثرُ وينمو، وتنزل فيه البركة، والأخروية بمضاعفة الأجر والثوابِ على الصدقة، كما تقدم في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ... الآية) (وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) اللهُ تعالى يبغضُ ويمقت أهل الكفر، الذين يحلّون ما حرمَ الله، ويقولون إنما البيع مثل الربا، كما أن البيع حلال فالربا حلال، ولا يحب كذلك مَن عملَ عملهم، مِن المسلمين الذين يقرّون الربا في مصارفهم ومؤسساتهم الماليةِ، ويقنِّنونه أو يتحايلون عليه بما ظاهرهُ السلامة منه، بإبرام عقود ليست ربوية في ظاهرها، وحقيقتها قائمة على الفوائد على السلف، فيما تأخذه أو تعطيه، وإن سموه أرباحًا أو عقود مشاركات ونحوها، فيجعلون التورّق المنظم وعقود المرابحة الفاقدةِ لشروطها عقودًا إسلامية، يسمّون الرّبا بغير اسمهِ، فإلى الله المشتكَى.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) قابَلَ اللهُ تعالى المحللين ما حرّم الله والمنهمكين في المعاصي بضدِّهم، وهم مَن آمن بالله وعمل الصالحات، وخصّ بالذكر مِن الأعمال الصالحة ركنين من أركان الإسلام: الصلاة؛ لأنها تلي الشهادتين في الرتبة، والزكاة؛ لأن المال شقيق الروح، فلبذله مزيدُ فضل لمشقته على النفس، ولأن الزكاةَ من الإنفاق، الذي تقدم التنويه به مرارًا في هذه السورة، ثم رتب على الإيمان والعمل الصالح ما أعدّه لأهله مِن الأجر والثوابِ، والعاقبةِ الحسنة، على وجهِ المقابلةِ بالنهاية السيئةِ والعاقبة المؤلمة، للفريق المتقدمِ آكلِي الرّبا، في قوله: (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) نداء للمؤمنين باسم الإيمان، لتتحرك فيهم حمية الإيمان ومقتضاه، فعليهم أن يتنبهوا إلى أنّ ما عندهم مِن الإيمانِ يتناقضُ مع ما يفعلونَه، مِن المطالبة بأخذ ما عقدوه من الربا، على مَا ورد في سبب نزول الآية؛ مِن أنّ ثقيفًا - وكانوا بالطائف - تصالحوا مع المسلمين على دخول الإسلام، بعد فتح مكة، وشرطوا لإسلامِهم أنّ ما لهم مِن ربا على قريش يأخذونه، وما عليهم موضوعٌ، وقبِل منهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإسلام على ذلك، تأليفًا لهم، فلما نزلت الآية وقيل لهم: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) قالوا: لا يدَي - أي: لا قِبل - لنا بحربِ الله ورسوله، فقيل لهم ولغيرهم مِن أمثالهم: اتقوا الله، واتركوا الرّبا جملةً وتفصيلًا، حتّى ما بقي لكم منه دَينًا من ربا قديمٍ لم تقبضوه، اتركوه إن كنتم مؤمنين حقًّا، لا متظاهرين بالإيمانِ كحال المنافقين، وقوله: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وعيد لمن لم يكفّ ويترك ما بقي من الربا، أو التحايل عليه، أي: مَن لم يتركْ عليه أن يكون على علمٍ ويقين، بأنه دخلَ بذلك مع الله في حرب، وهي حرب لا طاقة له بها، نهايتها معلومة، لا تخفى على أحد، مدمرةٌ؛ لا تبقي ولا تذر، فمن تراهُ يقدر على حربِ قيومِ السموات والأرض، مَن الأرضُ جميعًا في قبضته، والسموات مطوياتٌ بيمينِهِ، وقد ورد أنه يقال للمرابي يوم القيامة: جرِّد سلاحك للحرب، على وجهِ التهكّم، وتنكير (حرب) للتعظيمِ والتهويل، فهي حرب مخيفة، وإن كانت غير مرئية، فإن الله تعالى يقول: (ومَا يعلمُ جنودَ ربّكَ إلّا هوَ) (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) رأس المال في مصطلح التجارة هو أصل المال، دون زيادة عليه مِن ربح ونحوه، والمعنى: إنْ عملتم بمقتضى ما أنتم عليه من الإيمان، وانتهيتم بعد ما جاءتكم موعظةٌ من ربكم، وتركتم ما بقي من الربا ممّا لم يُقبض، فلم تطالبوا به، وتركتم التحايل على الربا وتبتم، فلكم أخذُ رؤوسِ أموالكم، لا تَظلمون بأخذ الزيادة عليها، ولا تُظلمون بجحدها ونكرانها ممن هي عنده، أو تُظلمون بالمماطلة في ردها إليكم.
وفي الآيات دليل على أنّ عقد الربا حرامٌ في ذاتهِ، لا يجوز الإقدام عليه، يجب نقضه إن وقع، ولو لم يتم معه قبضٌ ولا دفعٌ؛ لأن الله تعالى أبطل ما كان من الربا معقودًا في الجاهليةِ، ولو لم يكن مقبوضًا، وأمرَ بالتوبة منه، وردّ رأس المال، وفي التعبيرِ بقوله: (فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) إشارة إلى أنهم كانوا يقترضون بالربا، ليس فقط للحاجة وقلة ذات اليد، بل للتجارات وتنمية الأموال والكسبِ، وربما عاد على المقترض المتكسب بالقرض الربويّ مِن الربح ما يفوق الربا الذي يدفعه للمقرض، فذكر رأس المال بالخصوصِ لدفع مثل هذه الشبهة، حيث دلّت الآية على أن القرض للتنمية والكسبِ محرمٌ، كالقرض لسد الخلةِ والحاجة، وأنهما في التحريم سواءٌ، خلافًا لأوهام من يعللُ تحريم الربا باستغلال حاجة الضعيفِ، فيقصرُ التحريمَ على قرضِ المحاويج، دون قرض أصحاب رؤوس الأموال من الشركات التجارية والصناعية، التي يراها في الظاهر تربح أضعاف الفوائد التي تدفعها على رأس المال، يقال لهؤلاء وأمثالهم: حكمُ الله ولا معقبَ لحكمه هو: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ).
(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)[1] أي: وإن وجد المدين الذي استدان معسرًا، لا يقدر على رد رأس المال، عجزًا واحتياجًا، وليس مماطلةً وظلمًا، فالمطلوب انتظاره إلى الميسرة، لا الإشقاق عليه، وتكليفُه ما لا يطاق، والميسرة معناها اليسر، ضد العسر، وقوانين العدل الإلهي في علاقة الدائن بالمدين، ليس لها في قوانين البشر نظير، جمعت بين الرحمة والحزمِ، كلٌّ في محله، الرحمة لمن يستحقّها، والحزم والقسوة على من استوجبها لنفسه، بالمماطلة والتحايل على أموال الناس، المعسرُ المعدمُ الذي لا يجدُ يجب انتظاره، فلا يُسترقُّ، ولا يُباع في الدّين، كما كان عليه الحال في الأمم السابقة وقت نزول القرآن، وفي قوانين الرومانِ، والمعسرُ غير المعدم يندبُ انتظاره، والقادرُ المماطل ظالمٌ، مطلُه يُحلّ عرضَه وعقوبته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ)([2])، ويجبَر المدين على بيع ماله، وفاءً لغريمهِ، لكن يُترك له من الضرورياتِ التي لا غنى للإنسان عنها؛ مِن المسكن واللباس الذي يستره، والنفقة اللازمة، بما يحفظُ له حياته وآدميته، التي كرمها الله تعالى، فهذا النموذج لعلاقة الدائن مع المدينِ، لا تجدُ أعدلَ منه (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) الصدقة بالمال على المدين المعسر وإبراؤه بالكلِّية خيرٌ، وأكثر أجرًا مِن إنظاره إلى الميسرة؛ لما في الصدقة على المدين بالدين والتجاوز عنه مِن تنفيس الكربة عن المكروب، فإن الله تعالى يقول للعبد المتجاوز التارك لدينه: (أنَا أحَقُّ بذلكَ منكَ)، ويقولُ لملائكتهِ: (تجَاوزُوا عَنه)[3] (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في الصدقة على المدين من الذكر الحسن في الدنيا، وفي الآخرة من الثواب العظيم.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) خافوا يوم الحساب، يوم ترجعون إلى ربكم، فيوفي كلَّ نفس حسابَها بالعدلِ، بحسب عملها وما كسبت في الدنيا، ولا يظلم ربك أحدًا، فلا ينقصه حقه، ولا يحمّله عملَ غيره (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)([4])، وعن ابن عباس أن هذه آخر آية نزلت من القرآن([5])، وقيل آخر آية نزلت آية الكلالة .