المنتخب من التفسير -الحلقة 238- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (238)

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا)[النساء:47-50].

الخطابُ في (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) لليهودِ، و(الْكِتَاب) التوراة؛ وخُوطِبوا هنا بـ(يَا أَيُّهَا) الدالةِ على الاهتمام، وبأنهم أوتوا الكتابَ كامِلًا – لا نصيبًا منه – تأليفًا لهم؛ لأن الآية في معرض ترغيبهم في الإيمان، بخلافِ ما تقدمَ في الآية قبلَها، كان الكلامُ عنهم بضميرِ الغيبةِ، وأنّهم أوتُوا نصيبًا من الكتابِ؛ لأنّ السياقَ كان للتعجبِ من إعراضِهم وغفلتِهم، واختيارِهم الضلالةَ على الهدى، ولا تعارضَ بين الخطَابين، فهم قدْ أُوتوا الكتابَ، التوراةَ كلها، مِن جهة أنها بينَ أيدِيهم، وأُوتوا نصيبًا من الكتاب، من جهةِ تركِهم للعملِ بها، فخوطِبوا في كلّ مرةٍ بما يناسبُ المقام، وعبَّر عن القرآنِ بقوله (بِمَا نَزَّلْنَا) تشريفًا له، بنسبةِ تنزيلِه إلى الله، وعن التوراة بقوله (لِمَا مَعَكُمْ) استمالةً لهم، وأنّ ما يُطلبُ منهم الإيمان به هو كتابُهم، معهم في أيديهم، ولو آمَنوا به لآمَنوا بالقرآن؛ لأنه مصدقٌ له، ثم أتبعَهم الترغيبَ بالتهديدِ والوعيدِ إذا لم يؤمنوا، فقال لهم: آمِنوا (مِن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا) الطَّمسُ: إخفاءُ المعالم، تهديدٌ بنوع مِن المسخ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوي الصفوفَ: (لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)([1])، وكما قال فيمَن رفعَ رأسَه قبل الإمام: (أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ، أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ؟)([2]) (فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) تصويرٌ لمسخِها، بجعلِ الوجهِ كالقَفَا، ويرشحُه قوله (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) أي: كما وقعت اللعنةُ لآبائهم أصحابِ السبتِ، حيث عُوقبوا في الدنيا بالمسخ قردةً، قال تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)([3])، والتهديدُ بوقوعِ شيءٍ في الدنيا لا يقتضِي بالضرورةِ وقوعَه، إلا إذا أرادَ الله ذلك، هذا وجهٌ في معنى الآية، ويمكنُ حملُ طمسِ الوجوه على التوعدِ – إذا لم يؤمنوا – بالارْتِكاسِ والانْتِكاس، ووقوعِ الهوانِ والمذلة بهم، وخبالِ أمورِهم، وتبدلِ حالهم من الوجاهة والرئاسة، والسؤددِ والقوة، والمالِ والحصون، والمنعةِ التي كانوا عليها في المدينة، إلى ما انتهى به الأمرُ، ممَّا أصابَهم من الخرابِ والإجلاءِ مِن ديارهم، والسبيِ والتقتيلِ، على معنى أنَّ عليهم أنْ يسارعوا إلى الإيمانِ، قبلَ الارتدادِ على أدبارهم، أي قبل فواتِ الأوَان، وحلولِ العذاب، ووقوعِ الهزيمة، والانتقامِ منهم، فلم يستجِيبوا لما أمِرُوا به، وحلَّ بهم ما حلَّ في الدنيا؛ أُخْرجُوا من المدينة، ومِن جزيرةِ العرب، وما ينتظرُهم من عذابِ الله والطردِ من رحمته أشدُّ وأبْقى (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا) ما أراده الله مما توعدَهم به، أو توعدَ غيرَهم، واقعٌ لا محالةَ، إذا أرادَ الله نفاذَه لا أحدَ يقدر أن يَرُدَّهُ.

(إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) قطعَ اللهُ أطماعَ مَن أشركَ به في مغفرتهِ، ودخولِ جناتِه، قال تعالى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)([4])، وكل ما دونَ الشركِ من الذنوب والآثام، مهما عظُمت، إذا ماتَ مرتكبُها على الإسلامِ، تابَ منها أو لم يتبْ، فأمرُه إلى ربّه، إن شاءَ عفَا عنه، وإن شاءَ عَذَّبه، ثم يخرجُ من النار، فلا يخلّد في النار خلودًا أبديًّا أحدٌ ماتَ على الإسلامِ (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَّشَآءُ) قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ)([5])، فلا يجبُ على الله تعالى شيءٌ، مَن عاقبَهُ فبعدْله، ومَن عفا عنهُ فبفضلِه.

إلَّا أنّ الله تعالى توعدَ مَن لم يتبْ مِن العصاة بالعذابِ المهين، وأنه يُنزل بهم ما يستحقونَ، قال الله تعالى: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)([6])، وقال تعالى: (وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ)([7])، وقال سبحانه: (وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا)([8]) (وَمَنْ يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) تأكيدٌ على التحذير من الشرك؛ والافتِرَاء: الكذبُ الصّراحُ المختَلَق، الذي لا شبهةَ فيه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم) الخطاب في ألم تر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكلّ مَن يتأتى منه الخطاب، و(يُزَكُّونَ) مِن التزكية، وهي التطهيرُ والتبرئةُ مِن القبائح، وتزكيةُ النفس: أن يصفَ الإنسانُ نفسَه بذلك، ويثنيَ عليها، كما فعلَ اليهودُ والنصارى، حين قالوا: نحنُ أبناءُ الله وأحباؤه، وكما قال اليهود للمسلمين بالمدينة: ما نفعلُه بالليلِ يُغفر لنا بالنهار، وما نفعلُه بالنهار يُغفر لنا بالليل، نهاهُم الله عن ذلك، وقال لهم: (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ)([9])، وقال لهم ولغيرهم (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَّشَآءُ) (بَلْ) للإضراب الإبطالي، أبطل الله تزكيتَهم لأنفسهم، وأثبتَها له وحدَه، وأشعرَ إبطاله تزكيةَ النفسِ أنَّ المزكِّي لنفسِه محرومٌ مِن تزكيةِ الله، وكانت تزكيةُ النفسِ باطلةً مذمومةً؛ لأنّ التزكية شهادةٌ، ولا يشهدُ الإنسانُ لنفسه؛ لأنه متهم عليها، قال تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ)([10])، إلّا إذا كانت تزكيةُ النفسِ لغرضٍ صحيحٍ، كالتحدثِ بالنعمةِ شكرًا لله، والتزكيةُ مِن الغير تجوزُ إنْ كانت صادقةً، موافقةً لمَا يُرضِي الله، قال الله تعالى لنبيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)([11])، وقال عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)([12])، وشهد صلى الله عليه وسلم لعددٍ من أصحابه بأنهم مِن أهلِ الجنة (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الفتيلُ يُضرب به المَثَل في القلةِ والحقارة، وأصله: الخيطُ الرفيعُ في شقّ النّواة، كالنقيرِ للنقرةِ التي في ظهرِ النواة، والقطمير، وهو قشرة النواة الرقيقة، وكلّها في القرآن، قال تعالى: (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)([13])، وقال تعالى: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)([14])، والمعنى أنّه سبحانه إذْ نَهى عن التزكية، وجعلها إليهِ وحدَه، المُطَّلِع على السرائر، ذكر أنه سيُوفي كلَّ أحدٍ أجرَه، ولا ينقصهُ فتيلًا، فلا غبنَ ولا بخسَ.

(انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) (مُبينًا) مِن أبانَ اللازم، يقال: أبانَ الذنبُ أو الإثم، إذا ظهرَ وعظُم، فهو مُبينٌ، والمراد أنه إثمٌ، وذنبٌ عظيمٌ منكر، أي: انظرْ إلى كذبِهم في تزكيةِ أنفسهم، فهو كذبٌ واضحٌ صراحٌ، حتى كأنه لوضوحه – وهو معنى من المعاني – أمرٌ محسوسٌ، يمكنُ أن يُرى، وقد بلغوا به في الافتراءِ غايةَ الإثم والذنب البَيِّن، وقوله (وَكَفَى بِهِ) أي: هم جديرونَ بهذا الإثم العظيمِ، وتقدم الكلام قريبًا على استعمال (وَكَفَى بِهِ) في قوله: (وَكَفَىٰ بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللهِ نَصِيرًا)([15]) .

 

[1]) أبوداود: 664.

[2]) مسلم: 114.

[3]) البقرة: 65.

[4]) المائدة: 72.

[5]) البخاري:3892، مسلم:4481.

[6]) النساء: 123.

[7]) الفرقان: 68-70.

[8]) النساء: 14.

[9]) المائدة: 18.

[10]) النجم: 32.

[11]) القلم: 4.

[12]) الفتح: 26.

[13]) فاطر:13.

[14]) النساء:124.

[15]) النساء: 45.

التبويبات الأساسية