المنتخب من التفسير -الحلقة 308- سورة المائدة

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 (الحلقة – 308)

 

[سورة المائدة: 97 – 100]

 

(جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلكَعبَةَ ٱلبَيتَ ٱلحَرَامَ قِيَٰمٗا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهرَ ٱلحَرَامَ وَٱلهَدۡيَ وَٱلقَلَٰٓائِدَۚ ذَٰلِكَ لِتَعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرۡضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ)(97)

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) جعل: أوجَدَ وصيَّرَ، والكعبة من التكعّبِ، والتكعّب يطلق على النتوءِ والارتفاعِ، ومنه كعْب الرِّجل لنتوئِهِ، ويطلق على التربيع، وكون الشيء مربعًا، وتسمية البيت العتيق بالكعبة لارتفاعها، أو لتكعب شكلها، والبناء الذي انتهت إليه منذ زمن النبوة مربع بإخراج الحِجْر منها، فكل أضلاع بنائه متساوية، وكذلك أضلاعها متساوية مع ارتفاعها، ومع طول وعَرض بقعتها الشريفة، وهي علَمٌ على البناء الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بأمر الله؛ ليُعبد الله فيه، وقوله (الْبَيْتَ الْحَرَامَ) عطف بيان على الكعبة، فكما تسمى الكعبة تسمى البيت الحرام، زيادة في تفخيمها ومدحها؛ لأن الحرام معناه المنع، فهو بيت مُهاب الجانب، منيع من الجبابرة، محترم معظم، و(قِيَامًا لِلنَّاسِ) نصب على الحال، أي حالة كونه قائمًا للناس للانتفاع به وللعبادة، والقيام بالشيء إصلاحه ورعايته والاعتناء بشأنه، ومنه سمِّي القيِّم، الذي يقوم بأمر الصغير والقاصر، والقيوم سبحانه المدبّر لأمر خلقه بما يصلحهم.

وقوله (لِلنَّاسِ) أل فيه للجنس، فإن منافعه ممهدة للناس جميعًا، بالقوة وبالفعل، ولا يحرمُ منها إلا مَن أَبى، مع تفاوتهم في الانتفاع بها، فمن كان من العرب حول الكعبة كانوا أدخل في الانتفاع، فإيجاد الله سبحانه وتعالى الكعبة كان سببًا لمنافع ومصالح عظيمة للناس، في دينهم ودنياهم، ففي منافع دينهم هي رمز للتوحيد، ومعلم الدين، ووحدة قبلة المسلمين في أصقاع الأرض، إليها يحجون، وبها يطوفون، وإليها يصلون، وفي قيامها لهم في دنياهم جعلها الله وجعل حرمها ملاذًا آمنًا للخائفين، ليس للناس وحدهم، بل للوحوش ودواب البر، والشجر والكلأ، فلا يحل صيدها، ولا يُختلى خَلاها، وبذلك أمن الناس فيها واطمأنوا إليها، فجلبت إليها الأرزاق والتجارات، كما قال تعالى: ﴿‌یُجبَىٰۤ إِلَیهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَیۡءࣲ رِّزۡقا مِّن لَّدُنَّا﴾([1])، فكثر الخير على أهلها، وتنعم الناس في ربوع أرضها.

وقوله (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي وجعل تتميمًا لحرمتها وزيادة في تعظيم شأنها الشهرَ الحرام، ففي الأشهر الحرم يأمَن الناس؛ يحجون ويعتمرون، ويتركون التقاتل والحروب، ويتفرغون لإصلاح ذاتِ بينهم، وترقيع ما فسد منهم، فكانت هذه الأشهر معظمة عندهم في الجاهلية، لا يُفزِعون فيها طيرًا ولا إنسانًا، و ال في (الشَّهْرَ الْحَرَامَ) للجنس، فيشمل جميع الأشهر الأربعة الحرم، لا واحدًا بخصوصِه (وَالْهَدْيَ) ما يُتقرب به إلى الله من الذبائح والهدايا وقتَ الإحرام، وهو من متعلقات البيت الحرام ومنافعه، التي تعود على الناس (وَالْقَلَائِدَ) جمع قِلادة: ما يعلق في عنق الهدي الذي يساق إلى الكعبة للنسك، ليحافظ عليه، حتى يبلغ محله، ولا يتعرض له أحد، ليأكل منه المحتاج.

والإشارة في قوله (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) تعود إلى ما ذُكر، من جعل الله تعالى الكعبة المشرفة قيامًا للناس بهذه المنزلة، وما تَحقق بها من مصالح الدين والدنيا، واسم الإشارة مفعولٌ لفعل محذوف، أي: شرع لكم ذلك و(لِتَعْلَمُوا) متعلق به، أي: شرع لكم ذلك لتعلموا بما ظهر لكم ويظهر مع الأيام من منافع البيت العتيق، التي لم يكن كثيرٌ منها موجودًا ولا مشاهدًا عندما بناه إبراهيم عليه السلام، فما كان الناس يرونه ببنائه هو أنه مسجدٌ لعبادة الله تعالى، كسائر المساجد، ولكن (اللهَ) الذي (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) علم ما سيكون من شأنه، وما يعود به على الناس من خير، في دينهم ودنياهم، وقوله (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من عطف العام على الخاص، تأكيدًا لواسع علمه، فلا تخفى عليه خافية.

(ٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ)(98)

افتتاح الكلام بـ(اعْلَمُوا) لفت نظر، وتنبيه لشحذ الفكر، يشعر بأهمية مضمون الخطاب؛ ليستجمع المخاطب قوة ذهنه، والمخاطب هو كل من يتأتى منه الخطاب، ليتنبهوا ويعلموا (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لمن اعتدى على ما حرمه الله، سواء في أمر الحرم وفي غيره (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن انقاد وأجاب، أو بعد أنْ عصى رجع وأناب.

(مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلبَلَٰاغُۗ وَٱللَّهُ يَعلَمُ مَا تُبدُونَ وَمَا تَكتُمُونَ)(99)

قد أقيمت الحجة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وتبليغه ما أُمر به من الشريعة وأحكامها، وليس عليه شيء (إِلَّا الْبَلَاغُ) وقد بلغ، فقد برئ مِن كل مخالف ومعاند، ومَن أعرض عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلن يضر الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا، وما يضرّ إلا نفسَه، والقصر في قوله (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ) إضافي لا حقيقي؛ لأن للرسول وظائف أخرى؛ عبادية وتعليمية وقيادة جيوش وغزوات وإصلاح وغير ذلك، فهو قصر بالإضافة إلى ما لم يكن له عليه سلطان، وهو هداية الخلق، وإلجاؤهم إلى الإيمان، فما عليه إلا البلاغ، وليس مسؤولا عن هدايتهم (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) يستوي عند الله تعالى السر والعلن، فليس في مقدور من أعرض عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحجج بشيء أو يتعذر.

(قُل لَّا يَستَوِي ٱلخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوۡ أَعجَبَكَ كَثرةُ ٱلخَبِيثِۚ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَٰٓأُوْلِي ٱلأَلبَٰابِ لَعَلَّكُمۡ تُفلِحُونَ)(100)

بعد الإشادة بالبيت الحرام وتعظيمه، وبيان ما فيه من خير ومنافع، والوعيد على التعدي على حرماته، بيَّنَ الله سبحانه وتعالى الميزان الصحيح الذي يوزن به كل شيء؛ الأعمال والأموال والأشخاص، الجودة والرداءة، الصلاح والفساد (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) الاعتداد في ذلك كله ليس بالعدد والكم، والكثرة والقلة، وإنّما بالنفع والجودة والصلاح والخير، فالقليل من الصالحين خير من الكثرة من المفسدين، والقليل من المال الحلال خيرٌ من القناطيرِ المقنطرةِ من الحرام، فالشجرة الطيبة ﴿‌تُؤۡتِیۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِینِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَا﴾([2]) ﴿وَٱلَّذِی خَبُثَ لَا یَخرُجُ إِلَّا ‌نَكِدࣰا﴾([3])، وكذلك الأعمال؛ الصالحُ منها وإنْ قلّ، خيرٌ مما لا نفعَ فيه وإن كثر.

و(الْخَبِيثُ) هو الضارّ الحرام المؤذي (وَالطَّيِّبُ) النافع الحلال المستطاب، وفي نفي الاستواء بين الخبيث والطيب إيماءٌ إلى المفضل منهما؛ لأن الخطاب لـ(أُولِي الْأَلْبَابِ) وهو قرينة تعين المطلوب، الذي هو اجتناب الخبيث والحرص على الطيب، وذلك في كل شيء، وقوله (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) للتحذير من إغراء الخبيث وإغوائه، وبخاصة في المال والصفقات الكبيرة، التي لا يقدر على تجاهلها والرضى بالمقابل لها من الحلال – ولو كان قليلا – إلا مَن كان متينَ الدين، وتأكدَ هذا التحذير من الخبيث بالأمر بالتقوى، مخاطبًا أولي الألباب والعقول، فإن العقلَ يمنعُ صاحبَه المهالك، ويبصرُه العواقب.

 

[1])    القصص: 57.

[2])    إبراهيم: 25.

[3])    الأعراف: 58.

التبويبات الأساسية