المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 6 - تابع سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (6)

(اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ):

بعد ذكر إفراد الله تعالى بالعبادة وطلب الاستعانة به (إياك نعبد وإياك نستعين) أمروا بطلب الهداية؛ حتّى لا يغترَّ العابدُ بنفسِه، ويعلم أنه في كل أحواله محتاج ومفتقرٌ إلى ربه، وإلى هدايتهِ وتوفيقه، فمَن وكل أمره لنفسه واجتهاده وعلمه، دون افتقارٍ دائم لربه؛ خُذِل، وقد كان مِن دعاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهُمَّ أَعِنّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)[1].

(اهْدِنَا): الهِدايةِ لها معنيان؛ تأتِي بمعنى الإرشادِ والدلالة على الطريق، وهذه هداية تقدرُ عليهِ الرسلُ، ومن أجلها بعثوا؛ قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[2]، وقال تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فهَدينَاهُم فاستَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدَى)[3]، وتأتي الهدايةُ بمعنى التوفيق إلى الهداية، وقَبول القلب لها، والتصديق والإذعان، وهذه هداية تفَرَّدَ بها الباري سبحانه، ولا تقدِرُ عليها الرسُلُ، ولا أحدَ مِن الخلْقِ، قالَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)[4]، وقال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللهُ أنْ يهْدِيَهُ يشْرَحْ صدْرَهُ للإِسْلامِ)[5].

وجاء فعل الهداية في القرآن متعدِّيًا بحرفِ الجرّ؛ ومتعديًا بنفسِه؛ ليفيدَ نوعَين مِن الهداية؛ الهداية إلى الصراطِ، والهداية داخلَ الصراطِ، فمن الأول قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[6]، وقوله: (يِهْدِى لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[7]، ومن الثاني: (اهْدِنَا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ).

وفعل (اهْدِنَا) طلب، والطلبُ مِن الأدْنى إلى الأعلَى - كما هنا - دعاء، ومِن الأعلى إلى الأدنَى حُكمٌ وأمرٌ، ومِن المُساوِي التماسٌ ورجاء[8].

(الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ):

(الصِّرَاطَ)؛ أصله السراط بالسين، يذكَّرُ ويُؤنَّث مثلُ الطريقِ، وهو الطريق الجادَّة للمرور منها؛ لأنه يسرطُ السالكينَ، أي: يبتلِعُهم ويسعهم إذا دخلوه، وهو أيضا الطريقُ الواضحُ[9].

وقُلبتْ سينُه صادًا لمناسبتِها للطاء، في صفاتِ الإطْباقِ والعلوِّ والتفخيمِ، كما في مسيطِر، وقُرِئ بهما، والصَّادُ أفصحُ، وهي لغةُ قريش.

ووصف الصراط بالمستقيم؛ لِيفيدَ أنّه طريقٌ سهلٌ، يُوصلُ إلى الحقّ والخيرِ مِن أقصرِ السبُلِ؛ لأنّ الخطَّ المستقيمَ أقصرُ من المعوجّ والمتعرِّج، ولذا وَصَفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الملَّةَ بالحنيفيةِ السّمحة، ومعنى حنيفية؛ أي: غيرُ معوجّةٍ، والصراط المستقيم هو اتِّباعُ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقبلُ اللهُ مِن العباد غيرَه، وقد أُمِر به المؤمنون، لذا هو صراط واسع عريض، بعيد الأطراف، يتسع لكل من أراد سلوكه، لا يضيقُ عن أحد، ولا تحجره جماعة.

وهذا الدعاء بالهداية شامل لأنواعها؛ القولية والعملية والعقدية، ويتنوع بتنوع طالب الهداية، فالطلبُ مِن المعرضِ عن الهدايةِ، التوفيقُ إليها، ومِن المقصر، تمامُها وكمالُها، ومِن المتمكّنِ منها، الثباتُ والدوامُ عليها.

(صِراطً الَّذِينَ أَنْعَمْتَ علَيهِم):

هذا ثناء على الله تبارك وتعالى، بأنّه قد أنْعمَ مِن قبلُ على غيرِنا، جاء بعد دعائه في الآية التي قبلها بطلب الهداية، وتقديم الثناء على هذا الوجه مِن دواعِي الاستجابةِ كما لو قُلْتَ للكرِيم: اعطِني كما أَعطيتَ فُلانًا؛ فإنّ ذلك أقربُ إلى نيلِ رجائِكَ منه.

و(الَّذِينَ)؛ اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ في الإفرادِ والجمع، ومعربٌ في التثنيةِ.

و(صِرَاطَ الّذينَ) بدَلٌ على نيةِ تكرارِ العاملِ، مقدرا أي: اهدِنا صراطَ الّذينَ أنعمتَ عليهِم، وكُرِّرَت الصراطُ بأسلوبِ البَدل، دونَ الاكتفاء بذكرها مرة واحدة، كأن يُقال: (اهدنا صراطَ الذين أنعمت عليهم)؛ ليفيدَ الشهادةَ بالاستقامةِ لصراطِ المسلمينَ أوّلًا، ثمّ ليفيدَ ثانيًا دخولَ مَن أنعَمَ اللهُ عليهم فيهِ على أبلغِ وجهٍ، وهو مِن التفصيلِ بعد الإجمال؛ لِيتمكَّن المعنَى في الذهنِ مرتين، فإن البدلَ وعطفَ البيانِ في معنى التأكيدِ؛ لِما فيه مِن ذكرِ الخاصّ بعدَ العامّ.

(أنْعَمْتَ)؛ مِن النعمة، وهي العِيشةُ الهنيّةُ الراضية، التي لا يُنَغّصُها كدرٌ ولا سُوءُ عُقبى، الشاملةُ لخَيْرَي الدنيا والآخرة.

وأُبهمَ (صِراطَ الّذينَ أنعمتَ عليهِم)، ولم يُقَيّد بنعمة خاصةٍ أنعمها عليهم؛ لِيشملَ كلَّ نعمة، ونعمُ الله على عباده سابغةٌ، لا تُحصى، وأعظمُها نعمةُ الإسلامِ.

وهل المراد بالذين أنعمتَ عليهم عامةُ المؤمنين، أو فقط مَن خصَّهم الله تعالى بالتوفيق والاستقامةِ، مِن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كما قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا)[10].

 

 


[1][مسند أحمد:7982].

[2] [الشورى:52].

[3] [فصلت:17].

[4] [القصص:56].

[5] [الأنعام:125].

[6] [الشورى:52].

[7] [الإسراء:9].

[8] ونظموه رجزا، فقالوا:

أَمْرٌ مَعَ اسْتِعْلَا .. وَعَكْسُهُ دُعَا               وَفِي التَّسَاوِي .. فَالْتِمَاسٌ وَقَعَا

[9] ومنه قولُ جرير:

أميرُ المؤمنين على صراطٍ             إذا اعْوجّ الموارِد مُستقِيم

[10] [النساء:67،68،69].

التبويبات الأساسية