بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (92).
(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:175-177].
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) هؤلاء الذين بدلوا وغيروا، وكتموا ما أنزل الله من الكتاب، كان الأجدر بهم أن يختاروا الهدايةَ، التي توصلهم إلى المعرفة وصدق الإيمان، ولكنهم لم يفعلوا، بل عكسُوا الأمر، فأخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، واختاروا العذابَ، ونبذوا المغفرة، وهذا مِن ترديهم وحماقة عقولهم.
(فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (ما) اسم نكرة مبهمة، فيها معنى التعجب، وصلحت أن تكون مبتدأً لما في التعجبِ من معنى التخصيص، أي: أمرٌ عجَب أصبَرَهم على النار، والجملة بعدها (أصبرهم على النار) خبرٌ، أو هي نكرة موصوفة، على حدِّ قولهم: شرٌّ أهرَّ ذا نابٍ، أي: شيءٌ عظيم، وما (أَصْبَرَهُمْ) أي: جرّأهم على ارتكاب ما يدخلُهم النار، والتعجب واقعٌ مِن كلِّ مَن سمع بما يلاقيه هؤلاء، وجاءَ التعجبُ من حالهم إذا دخلوا النار - وهم لم يدخلوها بعد - لأنّ العذابَ لتحقق وقوعه وفظاعة وصفه، صار كأنه مشاهدٌ مرئيّ، وهم قطعًا لا صبرَ لهم عليها؛ لأنّ القرآن أخبر عن أهل النار - أعاذنا الله منها بمنِّه - بقوله سبحانه: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا)([1])، لكن لمَّا كان داخلُوها غير قادرين على منع أنفسهم منها، صار التعجبُ من جرأتهم على العمل الذي وصلهم إليها، والمراد من أسلوب التعجب المبالغة في التخويف، على معنى: كيف بكم بالصبر على العذاب، والعذاب لا أحد يقدر أن يصبر عليه!
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) الجملة كالتعليل لاستحقاق النار كل من كتم ما أنزل الله من الكتاب؛ لأن الكتاب أنزله الله بالحق ليبلّغ كله، ويقبل كلّه، ويُعمل به كله على وجهه، لا أن يحرفَ ويبدل، ويكتم بعضُه ويبلّغ بعضه، تبعًا للأهواء (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) الجملة حالية، والكتاب للجنس، يشمل التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها، والاختلاف الواقع فيها متعدد ومتنوع؛ فمن اختلاف اليهود والنصارى تحريفُهم ما في كتبهم، وكتمهم لبعض ما جاء فيها، وإخفاء بعضها، مثل آية الرجم، وكفرهم بالقرآن، ومِن اختلاف هذه الأمة؛ اختلاف المشركين في ردهم للقرآن، بقولهم سحرٌ وتقوّل، وكلامٌ مَن علّمه بشر، وأساطير الأولين، ثم اختلاف المسلمين بعدَ ذلك عليه الاختلاف المذموم؛ بكتم ما أُمِروا بتبليغه وبيانِه، وبحمله على غير وجهه، ومِنه اختلاف تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) خلافهم المذموم متطرفٌ قصي، بعيدٌ عن الحق، خلاف كبيرٌ واسع، ليس من اليسير الذي يمكن اجتماعُ أهله.
(لَيْسَ الْبِرَّ[2] أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) البر كلمة جامعة لكل خير، وهو مستعمل هنا في البر الكامل، الذي على رأسه حسنُ تلقّي الشرائعِ، ومعرفة ما هو أولى أن يتعلق به في التقربِ إلى الله، فحين حُولت القبلةُ أكثرَ أهلُ الكتاب الخوضَ في أمرها، وزعمت كل طائفة أن البر هو قبلتُها التي توجهت إليها، فردَّ الله تعالى عليهم بخطابٍ يعمهم، ويعمّ المسلمين، فقال: ليس البرّ الكامل مرتبطًا بالتوجه لجهة بعينها، شرقٍ أو غرب، فالجهاتُ كلها لله، يختار منها ما يريد لعباده، وهي من الوسائل، فلا يشغلكم الخوض فيها عن المقصود، وهو البرّ الكامل، الجامع لخصالِ الخيرِ كلّها، وذكر الله مِن أصولِه في هذه الآية ثلاثًا؛ ما يتعلق بالاعتقاد وأصول الإيمان، وما يتعلقُ بحسن المعاشرة، وما يتعلق بتهذيبِ النفسِ، فذكرَ الأولَ بقوله: (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)، و(الـ) في الملائكة وما بعدها لاستغراق الجنس، تستغرق كل ملائكة الله تعالى وكتبه وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
والثاني المتعلق بحسنِ المعاشرة، بدأه بقوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) ضمير (حبه) يعودُ على المال، وعدي الفعل آتى بـ(عَلَى) الدالة على الاستعلاء والتمكّن؛ ليدل على تمكن رغبتهم في المال وحاجتهم إليه، فهم يعطون المال مع حبهم القويّ له، لا زهادة فيه، فيعطُونَ ما نفوسُهم حريصة عليه وتحبه؛ طاعةً للهِ، وطلبًا لمرضاتِه، وبذلك تكون صدقتهم أفضلَ الصدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقةِ: (أن تَصدقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ)([3])، (ذَوِي الْقُرْبَى) اللام في القربَى عوض عن المضاف إليه، أي: قرابات المعطِي، ومواساة القرابة بالمال والإحسان إليهم مِن أعظم القربات، لذا تكررت الوصاية بها في مواضع عديدة من القرآن، يستوي في ذلك من كان منهم محتاجًا سدًّا لخُلته، ومن كان غنيًّا رفاهية لعيشهِ؛ لأن المقصودَ منها التحاببُ والمودةُ، وقوة الصلة بين ذوي الرحمِ، التي هي من أفضل ما يُتقربُ به إلى الله من الطاعات.
(وَالْيَتَامَى) اليتيمُ مَن مات أبوه قبل البلوغ؛ لأنه مظنة الفاقة، وفقد الحماية والرعاية (وَالْمَسَاكِينَ) جمع مسكين، صيغة مبالغة على وزن مفعيل، كمنطيق لبليغ المنطق، ومسكير لدائم السّكر، واشتقاقه مِن السكون والذل، فهو فقير أذله الفقر، وإذا ذكر المسكين وحده - كما هنا - فالمراد منه ما يعم الفقير أيضًا، وإذا ذكرا معًا - الفقير والمسكين، كما في آية الصدقات - اختلَفَ مدلولُهما، في أيّهما أشدّ حاجةً مِن الآخر، ولذا يقال عنهما - أي الفقير والمسكين - إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، والجمهور على أن المسكين أحوج (وَابْنَ السَّبِيلِ) السبيل الطريق، وابن السبيل المسافر والغريب، ونسب الى السبيل لكثرة ملازمته لها، حيث لم تكن فنادق ولا وسائل نقل متاحة، ولا أمن في الطرقات والبوادي، مع قلة المال أثناء السفر، فكان الإحسان إلى ابن السبيل وتضييفه أحد وجوه البر المرجوّ النفع (وَالسَّائِلِينَ) السائل الذي يتعرض للناس بالسؤال، يظهر الحاجة والفقر، وطلب الإحسان إليه لأنه مظنة الفقر، إذ الإنسان في الغالب لا يذل نفسه ويريق ماء وجهه بالسؤال، إلا وقد نزل به من الاحتياج ما لا يقدر على الصبر عليه، فإن عُلم من حال السائل عدم الحاجة، وأنه يتخذ السؤالَ حرفة - كما هو مشاهد من بعض الناس في أيامنا - فلا يُعطى، بل على من تولى الحسبة أن يزجره ويعنفه، ويعاقبه إن لم يزدجر، للنهي الوارد عن السؤال دون حاجة، والتخويف منه، ولما فيه من التعرضِ للمذلة (وَفِي الرِّقَابِ) جمع رقبة، الأشخاصُ والذواتُ، من إطلاق البعض وإرادة الكل، والمرادُ بها ما يشمل فداءَ الأسرى مِن العدوّ، والمملوك لتخليصه من الرق، بشرائه من سيده وعتقه، أو إعانته على تخليص نفسه، ابتغاء مرضاة الله، أعطى الله تعالى عليه الأجر العظيم، ورغّب فيه، ليتعزز جانب الحرية، ويصير جميع الناس أحرارًا.
والصنف الثالث من أصول البر، المتعلق بتهذيبِ النفس، قوله: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) حافظ عليها في الجماعات (وَآتَى الزَّكَاةَ) حقّ المال لمستحقيها (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) مِن عطف الجملة الإسمية على الفعلية في قوله: (مَنْ ءامَنَ) وما بعدها؛ للإشعار بالاهتمام بهذه الخصلة، وأنها جديرة بأن تكون صفة ثابتة، ملازمة لمن اتصف بها، لا تفارقه، وتشمل الوفاء بالعهد بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين المعاهد غير المسلم، إذا أعطي العهد وأذن له في دخول بلاد المسلمين، فلا يجوز الغدر به، ولا نكث عهده، إذا لم يصدر منه ما يستوجب ذلك (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) الصابرين بالنصبِ قطع عما قبله مِن المرفوعات، منصوبٌ على الاختصاصِ، مبالغةً في المدح؛ لتفضيل الصبر على باقي الخصال، التي ذكرت بعد الإيمان، والبأساء والضراء اسمان على وزن فَعْلاء، الأول مشتق من البؤس، يرجع إلى الشدّة في المال بسبب الفقر والحاجة، قال تعالى: (وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)([4])، والثاني الضراء خلاف السراء، ترجع إلى ما يُلحق الضرر بالإنسان في ذاته، من المرض والحزن ونحوه، فالصبر على الفقر والضراءِ مِن أعظمِ البرّ المتعلقِ بتهذيب النفسِ.
(وَحِينَ الْبَأْسِ) الشدة في الحربِ، وعند لقاء العدوّ في الجهادِ (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) من جمع هذه الخصال الثلاث من أصول البِر، فقد جمع أصول الإيمان وأصول الكمالات، وكان من الصادقين المتقين.
[1]) فاطر: 37.
[2] البرّ مصدر، وهو على قراءة الرفع اسمُ (ليس)، أخبر عنه باسم الذات (أَنْ تُوَلُّوا) كما أخبر باسم المعنى عن الذات في قول القائل: "فإنما هي إقبالٌ وإدبار" للمبالغة، فالمعنى في الآية: كأنهم جعلوا البر هو عين تولي وجوههم قِبل المشرق والمغرب، ولا شيء سواه، والنحويون يقدرون في مثله محذوفًا لحلِّ الإعراب، فيقولون: ليس أمرُ البر، وإلا فالمعنى مع عدم التقدير أبلغ.
[3]) البخاري: 1353، مسلم: 1032
[4]) الحج: 28.