بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (130).
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[البقرة:246-248].
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ) الاستفهام لتعجب الرائي والناظر إليهم من حالهم، والرؤية علمية، بمعنى النظر بالقلب والاعتبار والتأمل، والخطاب في (ألم تر) لكل من يتأتى منه الاعتبار بخبر هؤلاء الملأ. والملأ يطلق على الجماعة من أشراف الناس وعلية القوم يجتمعون للتشاور، فهم ملأ يملؤون العيون مهابةً والقلوب جلالةً، ويطلق الملأ على الجماعة مطلقًا، لا خصوص السادة والأشراف، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كالرهط والقوم، ويجمع على أمْلاَء (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) هؤلاء الملأ هم من بني إسرائيل، فمِن للتبعيض (مِنْ بَعْدِ مُوسَى) ابتداء مجيئهم كان في زمن نبيٍّ مِن أنبياء اللهِ بعد موسى صلى الله عليه وسلم، فمِن في (من بعد موسى) للابتداءِ، والآية في معنى ما تقدم من التوبيخ والتقريع، على فظاعة التولِّي عن الجهادِ، والتخلف والقعود عنه، عند الدعوة إليه بإعلان النّفير (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) كان جالوتُ ملكا على رأس جماعة الكفر من العمالقة، الذين كانوا بفلسطين وما حولها، وغَزوا بني إسرائيل فأخرجوهم من ديارهم، وسبَوا نساءهم، وأبعدوهم عن أبنائهم، فقال بنو إسرائيل لنبيهم: عيّن لنا ملكًا يكون قائدًا نقاتل معه عدوَّنا، ونسترد به أبناءنا وديارنا، فقَالَ لهم نبيهم متخوفًا من خذلانهم: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) عسيتم مِن أفعال المقاربة والتوقع، والاستفهام الداخل عليها تقريري؛ لحملهم على الإقرار بما هو متوقع منهم، مِن الجبن والتخلف عن القتال، فهم وإن طلبوا من نبيهم تنصيب ملك عليهم يقاتلون معه، فإن نبيهم يعلم استبعاد وقوع ذلك منهم، وأنهم لا يصلحون للقتال والذود عن الحرمات، لذا ردّ عليهم: أليس المتوقع منكم ألَّا تفعلوا، وألَّا تقاتلوا إنْ كُتب عليكم القتال، فهذا هو الذي يُعرف عنكم، أجابوا مكابرة: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) مَا في قوله: (وَمَا لَنَا) استفهامية، بمعنى: أي شيء، واللام للاختصاص، و(ألّا) في (أَلَّا نُقَاتِلَ) مُركبة مِن أنْ المصدرية ولا النافية، والاستفهام إنكاري، للرد على ما وصفهم به نبيهم من الجبن وعدم قدرتهم على القتال، فقالوا متظاهرين بالعزم على القتال: أيُّ شيء يمنعنا من أن نقاتل، وقد حلَّ بنا من الأسباب التي تدعونا إلى القتال ووقعَ بنا منها ما يوجبُهُ علينا، وهو أننا قد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، هذا كان جوابهم من الناحية الجدلية الخطابية (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) لما اختبروا بالعمل، وأُمروا بالقتالِ بالفعل (تَوَلَّوْا) جبنوا وفرّوا، ولم يثبت منهم إلا القليل (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تحذير ووعيد لمن يفعل فعلهم، فيطلب العُدة للقتال، ويظهر أنه إن عَرض له ما يوجب القتال سيقاتل، ويدفع العدو، فإذا ما عرض له القتالُ ودعي إليه تولَّى ورجع. (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) طالوت اسم علم كداود، قال لهم نبيئهم: إن الله أقام عليكم طالوت، ونصبه ملكًا عليكم، فاسمعوا له، وقاتلوا معه، فأنكروا ذلك على نبيهم، وقَالُوا له: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا) كيف يكونُ ملكًا علينا، استبعدوا ذلك وأنكروه، فـ(أَنَّى) أداة استفهام تفيد التعجب والاستبعاد، بمعنى: من أين أو كيف يكون له الملك علينا (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) والحال أننا أولى منه بالملك، فإنه لا يملك أدواته ومقوماته، ومنها المال والسعة في الغنى، وظنوا لقصورهم وضعف تدبيرهم أنّ مِن أُسس الملك الغِنى والمال، فقالوا: (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) فليس من أهل الغنى والمال، والملك لا يكون بدون ذلك، قالوا هذا متأثرين بمن حولهم من الملوك المترفين، فزعموا أن الملك متوقف على ذلك (قَالَ) لهم نبيهم ينصحهم: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) قال لهم: المُلك والسلطان منحة من الله، واختيار يختار له من يشاء من عباده، كما قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ)( ) (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) البسطةُ مِن البسط: الوفرة والكثرة، فقال لهم نبيهم: الله اختار للملك من يملك أدواته الحقيقية، وهي العلم وقوة البدن، فبالعلم يهتدي لصواب القرار في سياسة الدولة، وبقوة البدن يتحقق له النصر على أعدائه في ميادين القتال، إذ بثباته تثبت أجناده، وقدّم العلم على بسطة البدن لشرفه؛ لأن وفرة البدن يشترك فيها الإنسان مع ما هو أدنى منه، كالدواب، بخلاف العلم، ولأن العلم بحسن تدبير الأمور كثيرًا ما يحفظ الحياة، ويجنب الصدام والقتال (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) والملك لله يؤتيه من يشاء، ويعلم بحكمته مَن يستحقه. (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) إن المعجزة التي ستظهر لكم، والعلامة الدالة على أن الله هو الذي اختار لكم الملِك، الذي طلبتم أن يبعثه لكم، لتقاتلوا معه عدوكم، هذه العلامة هي: (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) الضمير (فِيهِ) يرجع إلى التابوت، أو إلى الإتيان به، و(فِيهِ سَكِينَةٌ) فيه طمأنينة واستقرار وأمن لكم، والبقية: قطع الشيء الفاضل من أجزائه، والآل: أهل البيت والأبناء والأتباع، وهو ما تركه موسى وهارون عليهما السلام، ولفظ الآل مقحمة للتفخيم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى رضي الله عنه: (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ)( )، و(تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) تحمل الملائكة الصندوق، وترحله وتسوقه بأمر الله وتوفيقه إلى ملكهم طالوت، والمعنى: علامةُ أنّ الله رضي لكم طالوت ملكا تقاتلون معه عدوكم؛ أن يأتيكم صندوق، وهو صندوق العهد، صُنع لموسى عليه الصلاة والسلام، وحُفظ فيه ما بقي مما تركه موسى وهارون، من العصا وقطع الألواح وعمامة أخيه هارون، تحمله لكم الملائكة بأمر الله، تحل معه عليكم السكينة والأمن والاستقرار. قيل: كان أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة والسلام يستفتحون بالتابوت، ويتبركون به، حتى أفسد ملوكهم وطغوا، فغلبهم على الصندوق العماليق في فلسطين، في عهد ملكهم جالوت، وأخذوه منهم، وبقي التابوت في أرض جالوت إلى أن ملّك الله طالوت، وجمع عليه الإسرائيليين، فخافهم العماليق، وردوه إليهم طواعية معتذرين، خشية غزوهم، وكان ذلك مما أراده الله لإرجاع التابوت إليهم، فحُمل إليهم من أعدائهم، ترحّله وتسوقه إليهم الملائكة؛ لأنها تمد بأسباب النصر مَن أراد الله تعالى تأييده (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ما قاله لهم نبيئهم وذكرهم به - من علامات ملك طالوت ورجوع التابوت إليهم بتيسير الله، من غير حول لهم ولا قوة - دليلٌ شاهد للمؤمنين من بني إسرائيل أنهم على الحق.