بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (21).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
بعد أن ذكر الله تعالى أحوالَ المؤمنين والكافرينَ والمنافقينَ، مُفصَّلةً مُتفرقةً؛ جاء الخطابُ عامّا للناس كافَّةً؛ بنبذ الشركِ، والأمرِ بالتوحيدِ، والتزام شرائعِ الدين وعبادةِ الله، وهو خطاب لهم ونداء، للانقـياد لله والاستسلام له بحسب أحوالهم؛ فالمؤمنونَ بازديادِ الإيمانِ، ودوامِهم عليه، والمشركون والمنافقونَ بترك الكفر والنفاقِ.
والافتتاح بالنداء (يَا أَيُّهَا) للتنويهِ بشأن المأمورِ به، وهو التوحيدُ، و(يا) حرفُ نداءٍ، وهي أصلُ حروفِ النداء، و(أيُّ) مُنادَى، نكرةٌ مبهمةٌ، أُزيلَ إبهامُها بوصفِها بـ (النّاس).
(اعْبُدُوا)؛ تقدمَ الكلام على معنى العبادة، في (إِيّاكَ نَعبُدُ) في الفاتحة.
(رَبّكُم)؛ لمَّا كان الخِطابُ عامًّا للناسِ كافّةً؛ مؤمنينَ وغيرَ مؤمنينَ، جاءَ الخطابُ لهم باسمِ الربوبيةِ، الذِي يعنِي الرعايةَ، وإصلاحَ المربوبِ، والقيامَ بأمرِه؛ ليكونَ ذلك أعونَ لهم على الامتثالِ، وتذكُّرِ النعمةِ، فالربوبيةُ تعني إصلاحَ المَربُوبِ، والقيام بأمرِه، ورعايتِه، وتقدمَ الكلامُ على اسمِ الربِّ في الفاتحةِ.
(الَّذِي خَلَقَكُم) (إحالة)؛ ذكَّرهم اللهُ تعالى وامتنّ عليهم بصفةِ خَلْقِه إيّاهم، دونَ سائر الصفاتِ الأخرى؛ لأن أصلَ النعم الأخرى متفرع عن الخَلق، ولإقامة الحجةِ عليهم، حيث إنهم كانوا يقرون لله بذلك، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[1].
وأصلُ الخلقِ، تقديرُ الشيءِ على مقاسٍ معينٍ يُراد لصُنعه؛ كالثيابِ أو الأديمِ (الجلد)، يُقاسُ لقطعِه وصنعِ ثوبٍ منه، أو نعلٍ، ومنه قولُ الحجاج: "ما خَلَقْتُ إِلاَّ فَرَيْتُ - أي: ما قدّرتُ شيئًا وقستُه إلّا قطعْتُهُ ولم أتَرَدّد - وما وَعَدْتُ إِلاَّ وَفَيْتُ"، وقول الشاعر:
وَلأنْــتَ تَفْـرِي مـا خَـلَقْتَ وَبَـعْــ ضُ القَــوْمِ يخْــلُقُ ثـمَّ لا يَفْـرِي
والمرادُ بالخلق في العرف الشرعي؛ الاختراعُ، والإبداعُ على غيرِ مثالٍ سابق، وهو الذي اختصّ به الباري تبارك وتعالى، ولا يجوزُ أن يُطلقَ الخلقُ بهذا المعنى على غيره؛ كما قال تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)[2]، وقال أيضًا: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)[3].
وإذا أطلق الناس هذا اللفظَ فيما بينهم، فعلى معنى الصنعة؛ بتركيبِ متفرِّقِ الأجزاءِ، وتقديرِ مقاديرَ مطلوبةٍ فيها، لا بمعنَى الإخراجِ مِن العدمِ إلى الوجودِ، على غيرِ مثالٍ سابق، وعلى هذا يحمل بعض وجوه التفسيرِ، في قول الله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[4]، فإنّ خلْقَه تعالى خلقُ إنشاءٍ واختراعٍ، وخلق غيرِه خلقُ صنعةٍ وتأليف، وقد قال الله تعالى عَن عيسى عليه السلام: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ)[5]، وذلك في الحقيقة مِن خلقِ الله تعالى، جعله لعيسَى عليه السلام معجزة، ومِن الناس مَن ينفي إطلاق لفظ الخلق على البشر رأسًا، دفعًا للَّبسِ.
(والّذِينَ مِن قَبلِكُم): (مِن) للتأكيد، وكثيرًا ما تكون لذلك إذا وقعت مع قبل - كما هنا - أو مع بعد، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ)[6]، نبَّههم الله تعالى بخلقِ مَن قبلهُم مِن آباءِهم - مع علمهم بذلك ـ تذكيرًا لهم؛ ليعلموا أنّ الله تعالى يميتُهم ويهلكهم، كما أماتَ آباءَهم وأمهاتهم؛ حتى لا يغترُّوا.
(لَعَلّكُم تَتّقُونَ)؛ لعل: حرفٌ للترجِّي والتوقعِ، كما تقولُ: لعلَّ زيدًا ينْجحُ، أو الإشفاقِ، كما في قوله تعالى: (لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ)[7]، قال تعالى: (وَالّذِينَ ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا)[8]، والتوقع والترجي قد لا يقعُ، فهو مصحوبٌ بالشكِّ، وهذا في حقِّ الله تعالى محالٌ، لذا فإنّ التوقعَ الحاصلَ عند ورودِها في القرآنِ إنّما هو في حقِّ البشرِ، أو تكونُ (لعلّ) في القرآنِ للتعليلِ لا للتوقعِ، ويكون معناها هنا: اعبُدُوا ربّكم لأجْلِ أنْ تتقُوا، أو تكونُ بمعنى التعرضِ للشيءِ، أي: اعبُدوا اللهَ متعرضينَ لأنْ تفوزُوا بتقواه، و(لعلّكم) متعلقةٌ بقولِه: (اعْبُدُوا)، لا بقولِه: (خَلَقَكُم)؛ لأن بعضَ مَن خَلَق الله لا يُنتظرُ منه الاستقامةُ والتقوى، وذكّرهم الله تعالى في هذه الآية بنعمَتينِ مِنّةً عليهم؛ نعمة الربوبيةِ، ونعمة الخلقِ؛ ليكونَ أدعى لانقياد المُعاند، ودوامِ طاعةِ المطيع.
(تَتَّقونَ): مِن الوقَايةِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على التقوَى في أولِ البقرةِ.
[1] [الزخرف:87].
[2] [النحل:17].
[3] [فاطر:3].
[4] [المؤمنون:14].
[5] [آل عمران:49].
[6] [الحشر:10].
[7] [الشورى:17].
[8] [الشورى:18].