المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 64 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (64).

 

(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا).

مناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها أنّ اليهودَ عندَما امتنعُوا عَن الإيمانِ بنبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلّم، ادّعوا أنّ الذِي يمنَعهم هو تمسّكهم بمَا أنزلَ عليهم، وأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أقرّ بأنّ ما أنزلَ إليهم حقٌّ وصدق مِن الله، والصدقُ مِن اللهِ تعالى لا يمكنُ نسخُه؛ لأنه في زعمِهم يستلزمُ البداء، أي أنّ الله علم شيئًا بعدَ أن لم يكن يعلمُه، وهو مستحيلٌ، وهذا زعمُ كلِّ مَن أنكرَ النسخَ، وأصلُ إنكار النسخِ مِن ضلالاتِ اليهود، ولَا يرِدُ ما زعموه.    

فالنسخُ بالنسبةِ إلى الله تعالى ليس بداءً وظهورًا لأمرٍ كان خافيًا عنه، وإنّما هوَ بيانٌ لمدةِ الحكمِ الأوّل في علمِ الله، لا رفعه وتبديله، وبالنسبة إلينا هو رفعٌ للحكمِ وتبديل، وقد ردَّ الله تعالى علي اليهود بوقوع النسخ، وخاطبَ به المؤمنين، إذْ لا فرق بينَ نسخِ بعضِ الشريعةِ ببعضِ، ولا بينَ نسخ شريعةٍ بشريعة أخرى.

(مَا نَنسَخْ) ما شرطية محلّها النصب، مفعولٌ به لننسخ، وننسخْ مجزوم بها، والنسخُ إزالةُ شيء بشيءٍ يعقبه ويأتي بعده، كنسخ الشمس الظلّ والظلّ الشمس، والشيب الشباب، ويستعمل بمعنى الإزالة مطلقًا، لا يعقبها شيءٌ يأتي بعدها؛ كقولك: نسخت الريحُ الأثرَ، ويأتي بمعنى الإثبات دون إزالةٍ؛ كنَسَخْتُ الكتابَ، وبمعنى الإزالة والإثبات معًا؛ كالنسخ الوارد في الآية، فهو إزالة حكم وإثبات حكمٍ بدله، بدليل قوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا).

(مِن آيَةٍ) مِن بيانية، والآيةُ العلامةُ، وتُطلق على المعجزة، ومنه قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ)[1] وعلى الآية القرآنية؛ كما في قوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ)[2].

ومعنى النسخ في الاصطلاح الأصوليّ: رَفعُ الحُكمِ الشَّرعِيِّ بِخطَابٍ شرعيّ آخر، فخرج بـ(الرفع) الحكمُ الواردُ ابتداء، وَبـ(الحكم الشرعي) رفعُ البراءةِ الأصلية بشرعٍ جديدٍ، فلا تسمى نسخًا؛ لأنّ البراءة الأصلية معناها عدمُ التكليف، الذي عليه الناس قبلَ ورودِ الشرع، فهي ليست حكمًا شرعيا.

(أَوْ نُنسِهَا) من النسيانِ، ومعناه تركُها وعدمُ قراءتِها، أو عدمُ العملِ بحكمِها، ممّا يجعلُها مَنسيةً، غيرَ محفوظةٍ ولا مذكورةٍ، وفعلُه نَسِي.

وقرئ مهموزًا (نَنْسَأْهَا) مِن الإنْساءِ، وفعلُه أَنْسَأَ، بمعنَى نؤخِّرها، والمرادُ إبطالُ العملِ بها (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) جوابُ الشرط في مَا ننسخْ مجزومٌ، أي: نأتِ بناسخٍ خير مِن المنسوخِ.

والخيرية قد تَكونُ مِن حَيثُ أنّه أكثرُ مناسبةً لتحقيقِ المصلحة للمكلَّفين، أو رفع الحَرجِ عنهم، والرفقِ بهم، أو لتكثيرِ الثواب، إذا كان حملُهم على الأشدِّ أكثرَ مصلحةً لهم، وجاء العطفُ بـ(أوْ) التي للتنويعِ لا الجمع؛ ليفيدَ أن الناسخ منهُ ما هوَ خيرٌ مِن المنسوخ، كنسخِ الشرائع السابقةِ بشريعة الإسلامِ، وكنسخ ما جاء في الخمرِ والميسرِ في قوله تعالى: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)[3] بقوله تعالى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)[4]، وهذا المثال الأخيرُ للخيرية بالحملِ على الأشدّ، فليست الخيرية دائمًا بالحمل على الأخفّ.

ومنه ما يكون نسخًا مثل المنسوخ، كنسخ شريعةِ هود بشريعة صالح عليهما الصلاة والسلام، ونسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)[5] بآية الفرائض والمواريث (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ...)[6] إلى آخر الآيات، وقد تجتمع المثلية مع الخيرية في الناسخ، بحيث يكون خيرًا من جهةٍ ومِثلا مِن جهة أخرى؛ كما في نسخ خمسينَ صلاةً بخمس صلوات، ففيها خيريةٌ بالتخفيف، ومثلية في الأجرِ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ)[7] أي: خمسون في الأجر.

ويستدل الأصوليون بهذه الآية على جوازِ النسخ؛ لأنه لا وجه لذكرهِ إلا جواز وقوعه، ولأنّ أدوات الشرط مثل (مَا) و(إِنْ) تدل في أصلِ وضعِها على احتمالِ ما دخلتْ عليهِ وجوازِه.

 


[1] [النمل:27].

[2] [النحل:101].

[3] [البقرة:219].

[4] [المائدة:90].

[5] [البقرة:180].

[6] [النساء:11].

[7][البخاري:342، مسلم:237].

التبويبات الأساسية