بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (26).
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
بعد أن أمر الله تعالى الناس جميعا بتوحيده، وإخلاص العبادة له، وبعد إقامة الحجة عليهم - بالدليل المحسوس، الذي يرونه بأبصارهم، كخلقهم وخلق من قبلهم، وبالدليل المعقول، الذي تحدّاهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ـ وبّخهم على إعراضِهم، مع زيادة إقامة حجج أخرى عليهم، فقال: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون).
هذا توبيخ على إعراضِهم عن الدلائل الواضحة على وحدانية الله، مع زيادة إقامة حُجج أخرى عليهم، و(كيف) اسم استفهامٍ مفعول مقدم، كالهمزة، إلّا أنّ الهمزة حرف، ويستفهم بها عنِ الذواتِ، و(كيفَ) يُستفهمُ بها عن الأحوالِ، وقد أفادت بهذا الاستفهام الإنكاري نفيَ عموم أحوال الكفر، عمَّن يُفترض أنه نظرَ في الدليلِ نظر انتفاعٍ، وبانتفاء عموم أحواله ينتفي، بخلاف نفي الكفر في ذاته، الذي يفيده الاستفهام بالهمزة أن لو كان الاستفهام بها ـ بدل كيف ـ فلا يفيد نفي كل حالات الكفر، يوضح ذلك أنك لو أردت مثلا أن تنكر على مَن رأيته يأكل الميتة، تقول له: أتأكل الميتة وهي محرمة؟ ولا تقول له: كيف تأكل الميتة وهي محرمة؟ لأن الميتة مباحة للمضطر، فلا يحسن نفيها عنه بـ(كيف)، التي تقتضي نفي أكلها في جميع الحالات، وهو في الواقع قد يكون أكلُه لها مضطرا، لكن يحسن أن تقول لمن رأيته يأكل الربا أو يشرب الخمر: كيف تأكل الربا، أو تشرب الخمر، وهي محرمة؟ لأن إباحة الربا والخمر للمضطر غير متفقٍ عليها، فنفيها عنه في جميع الأحوال متوجه.
(وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ): كيف تجرؤون على التمرد والكفر بالله، والحال أنكم كنتم أمواتا في عدم متصل، قبل أن تأتوا إلى الدنيا، فأحياكم الله، وأوجدكم حين ولدتم، وبقيتم إلى حين، ثم أماتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم حياة البعث والنشور حين ترجعون إلى الله؛ ليوفي كلَّ نفس ما كسبت، وعطفُ حياةِ الآخرةِ حياةِ البعث على ما شهدُوهُ مِن حياة الدنيا، هو للتنبيه على أن حياة الآخرة آتيةٌ لا محالةَ، وكأنها محسوسةٌ معلومةٌ بالضرورة.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا): بعد أن ذكّر الله تعالى بنعمة الحياة، ذَكّر بنعمةِ ما تقوم به الحياة، وينصلح به أمرها، وهو ما أوجدَه وبثَّه في الأرضِ مِن منافعَ كثيرةٍ؛ كالزرعِ والدواب والمعادن والأنهار والبحار، وما إلى ذلك، وجميعُها لأجلنا ليعودَ نفعُها علينا دونَ غيرِنا.
وفُصلتْ هذه الجملةُ عمَّا قبلَها دونَ عطفٍ؛ لأنها كالدليلِ على ما خُتمتْ به الأولَى، وهو البعث والرجوعُ إلى الله تعالى، فمَن بدأَ الخلقَ وخلق الأرضَ ومن عليها؛ لا تُعجزُه الإعادة.
(خَلَقَ): أنشأَ واخترعَ على غيرِ مثال سابق، وتقدم الكلام على الخلق في قوله تعالى: (يَأيُّها النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم).
والامتنانُ بما في الأرضِ، إنْ كانَ بمُتعِ الحياةِ ونعيمِها؛ فالمخاطَبونَ غيرُ داخلينَ في عمومِ (مَا في الأرض)؛ لأنّهم المُمَتَّعُونَ، وإن أريد بما في الأرضِ الاعتبارُ والتفكرُ فيما خلقَ اللهُ تعالى؛ فهم مِن جُملة ما يُعتبرُ به، قال تعالى: (وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)[1]، والآية يستدل بها أهلُ السنة على أنّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحة، واللامُ في (لكم) للاختصاصِ.
(جَميعًا): يصحُّ إعرابُه حالًا، فيكون المعنى: خلقَها مجتمعةً في وقتٍ واحدٍ، ويرِدُ عليه قوله تعالى: (وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِين)[2]، ويمكنُ أن يُجاب بأنّ بعضَها خُلق مجتمعًا وبعضَها متفرقًا، ويصحُّ إعراب (جميعًا) تأكيدًا للمفعول (ما)، فيكون المعنى أنّ ما علَى الأرضِ كلّه مخلوقٌ للهِ.
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ): أي: تعلَّقتْ إرادتُه سبحانَه بخلقِ السمواتِ، (فَسَوَّاهُنَّ): أوجدَهُنّ في استقامةٍ ونظام بديعٍ متقَنٍ، لا خللَ فيه، ولا تفاوتَ؛ (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحمَنِ مِن تَفَاوُتٍ)[3]، والترتيبُ المستفادُ مِن (ثمّ) متوجِّه إلى الخلقِ، لا إلى الإرادة، وضميرُ (فَسَوّاهُنّ) يرجعُ على السماءِ؛ إمّا لأنّها اسمُ جنسٍ، وإمّا لأنّها جمعُ سماوةٍ، أو سماءَة.
والسمواتُ؛ ذكَرَ القرآنُ في أكثر مِن موضعٍ أنّها سبعٌ، فهلْ هيَ المجرّاتُ المعروفةُ، أو غيرُ ذلك؟ لا يزالُ هذا مجهولًا، الفضاءُ الهائلُ الذي يحيطُ بهذا الكونِ، لم يُعرفْ عنهُ حتى الآنَ إلّا أقلّ القليلِ، قال الله تعالى: (والسَّمَاءَ بَنَينَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)[4].
وقد أفادتْ هذه الآية وآية فصلت: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ)[5]؛ أنّ خَلْق السموات كانَ بعدَ خلقِ الأرضِ، وفي سورةِ (النازعات) في قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)[6]، ما يدلُّ على أنّ خلقَ الأرضِ كان بعد خلق السموات، وقد ذُكِر هذا لابن عباس - كما في صحيح البخاري من حديث سعيد بن جبير - فأجابَ بقوله: خلقَ اللهُ الأرضَ في يومين، كما جاء في سورةِ فصلت، ثم استَوى إلى السماءِ فسواهن سبعَ سموات في يومين، ثم دحى الأرضَ، أي بسطها؛ فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومينِ آخرين، فذلك قوله: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين، وبهذا يتم التوفيق بين آية (النازعات)، وآية (فصلت).
لكن يبقى كيفَ يكون الجمعُ بين ما تقدم وبينَ هذه الآية في البقرة: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)؟ فإنّ ترتيب العطف بثمّ يدل على أن خلقَ السمواتِ كانَ بعد خلقِ ما في الأرضِ مِن أقواتٍ ومياه وجبال، فلا يتفق مع قوله تعالى: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا).
والجوابُ عن هذا: أنّ (ثمَّ) كما تصلح للترتيبِ الزمنِيّ، يُرادُ بها أحيانًا الترتيب في الإخبارِ والذكرِ، لا ترتيب وقوعِ الخبرِ في ذاتِه، كما في قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ) إلى أن قال: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)[7]، فالترتيب هنا ليس زمنيًّا، وإلّا فكونُ المطيع لربّه مِن الذينَ آمنوا سابقٌ عن فكِّ الرقبةِ واقتحامِ العقبةِ، ومنه قوله تعالى: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[8]، فالبعدية في قوله: (بعد ذلكَ) بعديةُ إخبارٍ، لا بعديةُ ترتيبٍ زمنيّ، وإلا فكونُه زَنيمًا، أي: ابنَ زنا، سابقٌ عن كونِه همازًا مشاءً بنميم.
(وهوَ بكلِّ شيْءٍ عَليمٌ): مَن قدرتُه وسِعتِ السمواتِ والأرضَ، ووسعتْ كلّ شيءٍ، فعلمُه كذلكَ بالجزئياتِ والكلياتِ وسعَ كلّ شيءٍ، ولا يحدُّه شيءٌ؛ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[9]، فصفةُ العلم لهُ ثابتةٌ، وأخطأتِ المعتزلةُ فقالوا: عالمٌ بلا علمٍ، والقرآنُ يردُّ عليهم، قال تعالى: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)[10]، (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه)[11].