المنتخب من التفسير -الحلقة 292 - سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (292)

 

[سورة المائدة: 49-50]

 

وَأَنِ ٱحكُم بَينَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِع أَهوَآءَهُم وَٱحذَرۡهُم أَن يَفتِنُوكَ عَنۢ بَعضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيكَۖ فَإِن تَوَلَّواْ فَٱعلَم أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعضِ ذُنُوبِهِم وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ (49)

جاء في سبب نزول الآية: “عن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ اليهود مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيَا وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دينه، فأتوه فقالوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ اليهود وَأَشْرَافُهُمْ، وَأَنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَنَا اليهود وَلَنْ يُخَالِفُونَا، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةً وَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَ وَنُصَدِّقُكَ، فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}”([1]).

(وَأَن) مصدرية دخلت على فعل الأمر، والواو عطفت المصدر المؤول من أن وفعل الأمر (احْكُمْ) على الكتَاب في قوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) عطف المفردات، والتقدير: وأنزلنا إليك الكتاب والأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله عليك من القرآن (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) لا تتبع الأهواء القائمة على التحريف والتبديل، والرغبة فيما تشتهيه نفوسهم (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) احذرهم أن يضلُّوك ويبتعدُوا بك (عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يفتنوه، وأمره بالحذر لتثبيته، فقد يزعم له أحبارُ اليهود أن في موافقته لهم أنَّهم يُسْلمون فتتبَعهم اليهودُ، وفي ذلك مصلحةٌ للدين بإسلامهم، فبيَّن الله أنّ هذه مصلحة متوهَّمة، وحفظ الدين مِن التحريفِ لا تساويهِ مصلحةٌ، ولا مساومة عليه، وأنّ تحريفَه لا يمكنُ أن يكونَ وسيلةً من وسائل الترغيبِ في انتشاره، فحفظ أصولِ الدين مقصدٌ من ثوابت الدين، وأمَّا كفرُهم وإيمانُهم فذلكَ شأنهم (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)([2])، وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم أيضًا تيئيسٌ لهم من الأطماعِ التي تراودُهم، وحسمٌ للباب، فإنَّ في قوله (عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) ما يقطع كل موافقةٍ لهم تكونُ بتركِ ما أنزلَ الله، ولو فيما قلَّ، فَإِنْ تَوَلَّوْا ولمْ يقبلُوا حكمَكَ (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ) فتلك علامةٌ على أن الله سيعذبُهم (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) وهو بعضٌ مخصوصٌ من الذنوب، الذي هو توليهم عن حكم الله وإعراضهم، وأُبهِمَ هذا البعض في قوله (ببعْضِ ذُنُوبِهِم) ولم يحدَّدْ للتهويلِ، وبيانِ أنه ليس هينًا، وأنه ذنبٌ عظيم، ومِن هذا الإبهام الذي يراد به التفخيم في المدحِ، قول القائل:

فأقولُ بعضُ النّاسِ عنكَ كنايةً خوْفَ الوُشاةِ وَأنتَ كلّ النّاسِ

والمعنى: فَإِنْ حكمت بينهم بما أنزل الله، وتولوا وأعرضوا عن الحكم المنزل، وأرادوا غيره؛ فتلك علامة شقائهم، وأن الله يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم، التي هي ذنب التولي والنكوص عن حكم الله، وهذا الذنب – ذنب التولي – ليس هو كل ذنوبهم، بل هو بعضها، ولهم ذنوب أخرى كثيرة، وهذا وحده كافٍ في أخذهم بالعذاب (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) كثير من الناس بإعراضهم عن حكم الله فاسقون، وهم أعرضوا، فهم فَاسِقُون.

 

أَفَحُكمَ ٱلجَٰهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكمٗا لِّقَومٖ يُوقِنُونَ (50)

الاستفهام في (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) إنكاري، وحكم الجاهلية في القتل كان التكايل في الدماء، ومعناه: تقدير الكفاء فيها بالشرف والوَجاهة، فقد يقتل بالواحد اثنان أو أكثر، وديته ضعف ديته، وأراد اليهود أن يسلكوا مسلك الجاهلية في ذلك، وطلبوا أن يحكم لهم النبي صلى الله عليه وسلم به، على حسب أهوائهم، والاستفهام في (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) إنكاري، معناه النفي، ناشئ عن توليهم عن الحكم بما أنزل الله، والخطاب للمسلمين؛ ليحذروا ما وقع فيه اليهود، من طلبهم أن يحكم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بغير حكم الله.

والتقدير في الآية: ليس حكمٌ أحسن مِن حكمِ الله في القصاصِ والعقوبات وغيرها، ظهر وتبين لمن لهم تبصر بالأمور، ويقينٌ بما يخبر الله به، فهم الذين ينتفعونَ بِما أنزل الله.

فاللام في قوله (لِقَوْمٍ) للبيان، تتعلق بمحذوف، تبين المقصود بالكلام الذي قبلها، كما في قوله: (هَيْتَ لَكَ)([3])، فقول امرأة العزيز ليوسف عليه السلام: تهيئتُ، لم يكن يخطر بباله أنها تفعل ذلك له، فأتي بلام البيان لِما لم يكن يتوقع، ومنه: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)([4])، بَعُد وأُبِين البعد لما توعدون من البعث.

 

[1]) أسباب نزول القرآن للواحدي: 1/198.

[2]) النمل: 40.

[3]) يوسف: 23.

[4]) المؤمنون: 36.

التبويبات الأساسية