بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (244)
[سورة النساء:71-74]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)[النساء:71].
مهدتِ الآيات السابقة، التي ربطت الإيمان بطاعة الرسول في كل أمر؛ لوجوب طاعته، فيما سيذكر مما هو أشقّ على النفس، وهو الجهاد، والاستعداد له بأخذ العدة والتيقظ، والحذر: الاحتراز عما يُخاف، والترقبُ لما يُخشى، والتنبهُ إليه، ومن الحذر عدمُ الاطمئنان للعدو، ولما يعقده من الهدنة والمصالحات، فإن شيمةَ العدوّ الغدرُ، وبخاصّة عندما يعرف فيه النفاق (فَانفِرُواْ) من النَّفْر، وهو الخروج إلى الجهاد، وقد يُطلق على كل خروجٍ، وبابُه ضَرَبَ، بخلاف النفور، فمعناه البعدُ عن الشيء، وكراهيتهُ (ثُبَاتٍ) جمع ثُبَة: جماعاتٍ متفرقين (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) جيشًا واحدًا، وجماعةً واحدةً، ففي الآية الأمرُ بالخروج للجهادِ على كل حالٍ، كان ذلك الخروج جماعةً واحدةً أو جماعاتٍ متعددةً، وذلك يكونُ بناءً على ما تتّخذه القيادة مِن خطة، بما يحقق كاملَ الحذرِ من العدو، وهذا ما يفيده التخييرُ في الخروج، الذي دلت عليه الآية.
(وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا)[النساء:72-73].
(وَإِنَّ مِنكُمْ)([1]) أقسمَ اللهُ بأن بعضًا منكم وهمُ المنافقونَ (لَّيُبَطِّئَنَّ) يتأخرون ويتخلفون عن الخروج للجهاد، فالمعنيونَ بالتخلفِ عن الخروجِ في الآيةِ هم المنافقون؛ لأنَّ المؤمنَ، وإنْ تخلفَ عن الجهاد، لا يقول: قد أنعمَ اللهُ عليّ إذ تخلفْتُ ولم أكنْ معهم شهيدًا، بل يرى تخلفَه نقمةً يغتمُّ لها، كما وقع لكعبِ بن مالك ورفاقِه في تَبوك، وكان المنافقونَ يخرجونَ مع جيش المسلمين، ثم يخذلونَهم ويرجعونَ، كما فعلَ ابن أُبيّ في أُحدٍ وفي الخندق، وقد أكدت جملة (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ)([2]) بالقسم وغيره من المؤكدات تنزيلا للمخاطَب في الموضعين منزلةَ المنكرِ؛ لأنّ ما وقعَ من المنافقين محلُّ استغراب، لا يكادُ يصدَّق([3]).
والخطابُ في قوله (فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ) للمسلمين، والمصيبة: الضرُّ، وهو: القتل، والأسر، والهزيمة (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللهِ) نصرٌ وغنيمةٌ([4])، ووَصفَ المنافقونَ الفوزَ الذي حصل للمسلمينَ وكانوا يتمنونهُ بالفوزِ العظيم؛ لأنهم أرادُوا به الغنيمة، وأن يشاركوا في نسبةِ النصرِ إليهم، مع السلامة والرضَا عنهم من المسلمين، وجملة (كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) معناها على أحدِ وجهين:
يمكنُ حملها على نفي المودةِ بينهم وبين المسلمين ظاهرًا وباطنًا، فليس بينكم وبينَه إلا العداوة، فكانَ يسرُّه ما يسوؤُكم، ومع ذلك يتجرأُ ويقول: يا ليتَني كنتُ معكمْ.
ويمكنُ حملها على وجودِ المودّةِ ظاهرًا، والعداوة باطنًا، فيكونُ المعنى أنه حين يتمنى ويقول: يا ليتني كُنتُ معكم، يُظهر الصحبةَ والمودة لهم، وكأنه يعتذر عن التخلّف كذبًا، بأنه لم يسمعْ بخروجِهم، ولو سمعَ لخرجَ، فتمنيه أن لو كان معهم، والحالة هذه، تمنٍّ كاذبٌ، يُتعجبُ منه؛ لأنه كان بداخلِهم، ويعلمُ حِلَّهم وترحالهم.
والمعنى: أنّ الله أقسمَ وأكّد الجملةَ بعددٍ من المؤكداتِ، أنَّ مِن بينكم المنافق، مَن يتأخرُ ويتخلفُ، ويثبّطُ نفسه وغيره عن الجهاد، ثم يتربصُ ويتابعُ المعركة، فإذا أصابكم ضرٌّ من قتلٍ أو أسرٍ أو هزيمةٍ يقول: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكنْ معهم شهيدًا حاضرًا لها؛ لأنه يرى السلامةَ مِن القتلِ في سبيل الله نعمةً، ولو انتصرَ المسلمون أو غنمُوا غنيمةً، فإنه يتحسرُ ويتندّمُ لفوتِ الغنيمة، ويتمنى: يا ليتني كنتُ معهم، وشهدتُ المعركةَ، فأفوز فوزًا عظيمًا، فيكون لي نصيبٌ من المال، والنصرِ مع السلامة.
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:74].
الفاءُ في قوله (فَلْيُقَاتِلْ) للتعقيبِ، فبعد ذكرِ حالِ المبطِّئين مِن أهلِ النفاقِ، أعقبَهم الله بذكرِ المؤمنينَ الصادقينَ، وقدمَ الظرف (فِي سَبِيلِ اللهِ) على الفاعل؛ للاهتمام به، فسبيلُ الله هو الجنة، وهي الغاية المقصودةُ من القتال، وقوله (يَشْرُونَ) أي يبيعونَ ويعطونَ الحياة الدنيا؛ ليأخذوا عوضًا عنها الآخرةَ والجنة([5])، ثم ذكر مما يعرضُ للمقاتلِ أمرين: القتل في سبيل الله؛ لينال الشهادة، أو الغلبة والنصر، واقتصر عليهما ترغيبًا في الشهادةِ، وتثبيتًا بوعده الأجرَ إنْ غلبَ ولم يُقتل؛ وإلّا فهناكَ أمورٌ أخرى تعرضُ للمقاتلِ، كالأسرِ والجراحِ والهزيمةِ ونحوها لم تُذكر؛ لأن النفسَ لا تحبُّها، ولا ينبغي للمقبلِ على الجهادِ أن يذكّر بها ويستحضرَها، وقد تكفلَ الله تعالى للمجاهدينَ بالأجرِ العظيمِ في الحالتين، غُلبوا أو غَلَبوا، فقال (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
[1]) مِن في (وإن منكم) للتبعيض.
[2]) اللامُ في (لَمَن ليبطئنّ) هي التي تدخلُ على خبرِ إنّ أو على اسمها إذا تأخرَ، كما هنا، ولام (لَّيُبَطِّئَنَّ) واقعةٌ في جوابِ قسمٍ محذوفٍ، والتقدير: وإن منكم لمن أقسمَ ليبطّأنّ، فالجملة مؤكدة بثلاثةِ مؤكدات: إنّ، ولام القسم، ونون التوكيد، كما أكد ما حكي عنهم في قوله (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ) أُكد باللام الأولى الموطئة للقسم، واللام الثانية الواقعة في جواب القسم، ونون التوكيد.
[3]) وبطّأ: مُضعف، أغلبُ استعماله قاصرًا، ومنه الحديث: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)([3]).
[4]) المنادى في قوله (يَا لَيْتَنِي) محذوف، تقديره: يا قوم ليتني كنتُ معكم؛ لأنّ ليت حرف، وياء النداء لا تدخلُ على الحروف، إلّا إذا جعلت الياء هنا للتنبيه.
[5]) الباء هنا داخلةٌ على المأخوذ، وهو الآخرة، لا على المبذولِ المتروكِ كما هو الكثير في الاستعمال؛ لأنها ذكرت لبيان العوض وهو الثمن، وباء المقابلة مع بِعتُ وشريتُ تصلح للمأخوذِ والمتروكِ، تقول: بِعت هذا بدرهم، فتدخلُ على المأخوذ، ويقولُ الطرف الآخر: اشتريتُ هذا بدرهم، فتدخلُ على المتروك.