المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة – 300
[سورة المائدة: 71 – 74]
(وَحَسِبُوٓاْ أَلَّا تَكُونَ فِتنَةٞ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيهِم ثُمَّعَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٞ مِّنهُم وَٱللَّهُ بَصير بِمَا يَعمَلُونَ)(71)
قوله (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي ظنوا، والضمير يعود على بني إسرائيل، فبنو إسرائيل حسبوا وظنوا أنهم ناجون، ليس عليهم من بأس مما فعلوا بالأنبياء، من قتل وتكذيب، حتى إنهم قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)()، وقالوا: (لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّاۤ أَیَّاما مَّعدُودَةࣰ)()، حسبوا أن أعمالهم لن تكون مصدر فتنة وبلاء عليهم، فأساؤوا الظن، وتجرؤوا على الله، وليس الأمر كما زعموا، بل هم عموا وصموا، فكان قتلهم الأنبياء وسائر كفرياتهم الأخرى سببًا في إغوائهم، فأعماهم الله عن تبصر الحقِّ وسبيل الرشاد، وأصم آذانهم فلم يسمعوا للأنبياء، وإذا سمعوا تولّوا وأعرضوا. والفتنة التي حلت بهم: البلاء والابتلاء بمصائب الدنيا من القتل والهرج والمرج، ومصائب الدين بالإضلال والغواية.
وقوله (ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي تابوا المرة بعد المرة ولم يدوموا على التوبة، فكان عماهم وصممهم الذي ذكرته الآية متكررا أكثر من مرة، كلما تاب الله عليهم عادوا، فهم لما خرجوا مع موسى u إلى الطور قَالُوا: (أَرِنَا ٱللَّهَ جَهرَةࣰ فَأَخَذَتهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ)() ، فتابَ الله عليهم وأحياهم، ولما عبدوا العجل قال لهم موسى عليه السلام: (فَتُوبُوۤا۟ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ)()، فتابُوا وقتلُوا أنفسهم، فتابَ الله عليهم، لكن كان آخرُ أمرِ كثيرٍ منهم كما في هذه الآية العمى والصمم، فخُتمت حال كثير منهم به، فبقَوا على العمى والصمم بعد التوبة، فلم تذكر لهم توبة، وهلكوا، كما يدل قوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) على أن منهم من أسلم وحسن إسلامه، كعبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره، وجملة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) خبريةٌ لفظًا، لكن معناها الوعيد والتخويف؛ فإنَّ القادرَ إذا قال لمَن يخالفه: أرى ما تفعل، فمعناه: جهزْ نفسَك لما يحلُّ بك، سأفعلُ بك كذا وكذا.
(لَقَد كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلمَسِيحُ ٱبنُ مَرۡيَمَ وَقَالَ ٱلمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسرَٰٓءِيلَ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم إِنَّهُۥ مَن يُشرِك بِٱللَّهِ فَقَد حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلجَنَّةَ وَمَأوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن أَنصَارٖ)(72)
قوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) انتقالٌ إلى ذكر كفر فريقٍ آخر من أهل الكتاب، وهم النصارى (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ومعنى قالوا: اعتقدوا، وهؤلاء هم طائفة اليعاقبة من النصارى، وتقدم الكلام عليهم في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) في سورة النساء.
والمسيح عليه السلام الذي جعلوه إِلَاهًا يتبرأُ مِن قولهم، ويقر بأنه عبد مربوبٌ مخلوقٌ، مملوك لله، ويقولُ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) يطلب من بني إسرائيل أن يعبدوا الله ربهم ورب المسيح، فلا ربَّ سواه، وقوله: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) أي منع عليه الجنة؛ لأنّ الآخرة ليست دار تكليف، وهذا كقوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغفِرُ أَن یُشرَكَ بِهِ)()، فمن أشرك بالله ومات على الكفر، فهو ممنوع من الجنة، لا يدخلها، ومصيره الذي يأوِي ويرجع إليه هو النار، والظلم في قوله (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) هو الكفر، فليس للكافرين إذا واجهوا مصيرهم بدخول النار مِن ناصرٍ ينصرهم، و(أَنْصَارٍ) جمع معناه الجنس، أي جنس الناصر مفقود، جمعًا كان أو واحدًا، أو المعنى أنه إذا عجزت الجماعة عن نصرتهم، فالناصر الواحد من باب أولى، وجملة (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) يحتمل أن تكون معطوفة على ما قبلها، من تتميم كلام عيسى عليه السلام، ويحتمل أن تكون مبتدأة من كلام الله تعالى.
(لَّقَد كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞوَإِن لَّم يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنهم عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَستَغفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ)(73-74)
قوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) ذكرٌ لكفر طائفة أخرى من النصارى، وهم الملكانية، وأكثر النصارى اليوم منهم، القائلين بالتثليث، وتقدّم توضيح قولهم بالأقانيم الثلاثة في قول الله تعالى: (فَآمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُوا۟ ثَلَٰثَةٌ)() وقوله (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) رد على قولهم: ثالث ثلاثة، ونفي قاطع وإبطال له على أبلغ وجه، فـ(إلَه)نكرة في سياق النفي، ومِنْ لتأكيد استغراق النفي، نفتْ وجودَ إلهٍ في الكون يستحق العبادة بحقٍّ لذاتِهِ غير اللهِ جل في علاه، وقوله (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي إن الله يقسم ويقول: وعزّتي؛ إن لم يرجعوا عما هم عليه، من اعتقاد الشرك والتثليث، ويتوبوا قبل فوات الأوان، ليمسن ولَيُصيبنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم، فاللام في (لَيَمَسَّنَّ) للقسم، لتأكيد أنهم إن لم يرجعوا عن كفرهم ليصيبنهم العذاب، ومِن في قوله (مِنْهُمْ) للبيان، أي أن العذاب سينزل بالكفرة فيهم، لا مَن آمنَ منهم بعد ذلك ولم يبقَ على الكفر، والتأكيد بالقسم للرد على مزاعمِهم، أنهم أبناءُ الله وأحباؤه.
وقوله (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) ترغيبٌ لهم في الإيمان وتحضيض، جاء بعد التخويف والوعيد؛ هلّا يتوبونَ إلى الله ويستغفرونه، فإنْ فعلوا فإنَّ الله غفورٌ رحيم، كثير المغفرة بالغُ العفو، يغفرُ الذنوب جميعًا لمن رجعَ إليه وأناب.