بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (57).
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ).
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) الكتاب: التوراة، فهو الكتاب الذي نزل على موسى فأل فيه للعهد (وقفينا): من القفا، وهو مؤخر العنق، ومنه الحديث: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ)[1]، والمراد: جئنا على إثره وأتْبَعْناه.
والرسل: أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عليهم الصلاة والسلام، وما أرسلوا به مِن تفريعات عن أصل كتابهم الأول التوراة والتأكيد عليه، وذِكرُهم بصيغة الجمع مع (أل) الدالة على الجنس، يفيد أنّ عددَهم كثير، وآخرهم عيسى عليهم جميعًا السلام من الله، وتخصيصُ عيسى عليه الصلاة والسلام بالذكر لأنّه آخرُهم، ولأنه لا زالَ هناكَ مَن يزعمونَ أنهم يتبعونه؛ لتقام الحجةَ عليهم.
(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) المعجزات والدلائل الواضحة على نبوته (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) الروح تطلق على نفس الإنسان، وحقيقةُ سرّها ممّا اختصَّ اللهُ وحدهُ بعلمه، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[2]، وتطلق على ما كوَّنه الله تعالى ونفخَ فيه في بطنِ مريم، فخلق عيسى مِن غيرِ أبٍ: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)[3]، وتطلق على جبريل عليه السلام، قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ)[4] وهو المرادُ بالروح هنا، أيّد الله تعالى عيسى بهِ، من ذلك أنه أخبرَه بما يأكلونَ ويدّخِرونَ في بيوتهم، ومعجزاته الأخرى؛ كتكليمِه الناسَ في المهدِ، وأحيَاء الله تعالى لهُ الموتَى، كله بوحيٍ يتلقاه من الملك.
وقد أعيدَ في هذه الآية التذكيرُ بأنّ موسى رسولٌ مِن الله، أرسلَهُ إلى بنِي إسرائيل بالتوراة، وأَتْبعَهُ بعددٍ غيرِ قليلٍ مِن الرسلِ لبني إسرائيل، آخرُهم عيسَى؛ ليمهّدَ لإدانةِ المخاطَبين مِن اليهودِ وقتَ نزولِ القرآن على إعراضهم، فتكذيبُهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكنْ هو الأول في التكذيب، فقد كذبوا موسى مِن قبل، فلا يُتوهمُ أنّ لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم شبهةً قامتْ على عدمِ صدقهِ، بل هذا هو دأبُهم ودينُهم مع جميعِ أنبياءِ الله ورسلهِ؛ المكابرةُ والعنادُ، واتباعُ الهوى وما تشتهيهِ الأنفسُ.
(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) الفاء للعطف والهمزة للاستفهام، والأصل أن تتقدمَ الفاءُ العاطفةُ على الهمزةِ فتكون (فأكلما) ليكون العطف لجملةِ مدخولِ الفاءِ، لا لبعضِه، لكن لمّا كان لهمزةِ الاستفهامِ - التي هي الأصلُ في أدواتِ الاستفهام - الصدارةُ تقدمَتْ، ووقع التنازع عندَ اجتماع الهمزة والفاء العاطفة؛ أيهما يقدم، فاختارَ صاحبُ الكشاف في هذا وفي مثلِه - من الاستفهامِ التوبيخيّ في القرآنِ - أن تكون الهمزةُ داخلةً على جملةٍ مقدرةٍ، دلَّ عليها المذكورُ، والتقديرُ: أكذّبتم؟ فكلّما جاءكمْ رسولٌ بما لا تهوَى أنفسُكم استكبرتمْ، وهذا التقدير أقعدُ بتوضيح المعنى.
وجعلَه الجمهورُ من العطف على شرط مقدرٍ، مع إعطاء الصدارةِ للهمزة، وجعل فاء العطفِ للفصيحةِ، والتقدير: فإذا كانَ حالُكم على ما ذُكر فكلّما جاءكم...
(تَهوَى) تشتهي وتحب، من هوِي الشيءَ أَحبَّه، جمعُهُ أهواءٌ، ويستعملُ غالبًا في غيرِ الحقّ، وقد يُستعملُ في الحقّ، ومنه قولُ عائشةَ للنبي صلى الله عليه وسلم: (مَا أَرَى رَبّكَ إلَّا يُسارِعُ فِي هَوَاكَ)[5].
(اسْتَكْبَرتُمْ) ترفّعتُم عنِ الإيمانِ بالرسلِ، والسينُ والتاءُ للمبالغَةِ في الكبر الذي أظهروه (ففَريقًا) مفعولٌ لـ(كذّبتُم) فكذبتم فريقًا مِن الرسلِ، وفريقًا آخر تقتلونَ، وممّن كُذّبُوا محمدٌ وعيسَى، وممّن قُتلُوا يحيَى وزَكرياء، عليهم جميعًا الصلاة والسلام.
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) (وقالوا) التفاتٌ مِن الخطابِ في قوله: (أَفَكُلّمَا جَاءَكُم) إلى الغيبةِ؛ للتعريضِ بغيابِهم وطردهم مِن الحضرة، فلا يستحقونَ مِن الله المخاطبةَ (غُلفٌ) الواحدُ أَغلفُ مِن غلّفَ الشيءَ، إذا غطّاه وأحاطَه بوعاءٍ يحفظُه فيه، فلا يصلُ إليه شيء.
(بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) اللعنُ: الطردُ والإبعادُ، و(بل) للإضراب، أضربَ الله عن تعذُّرهم الكاذب، بأنّ قلوبَهم ليست بها قابليةٌ للفهم خِلقة، وأنها ليست كقلوبِ الناس، وأبطلَهُ ببيان السببِ الحقيقيّ لكفرِهم، وهو أنّهم أعرضوا، فأعرضَ اللهُ عنهم، وأبعدَهم وطردَهُم، فلا تجد الهدايةِ لهم طريقًا، وإلّا فقلوبُهم كقلوبِ الناسِ، بها ما بقلوبِ الناس من القابليةٌ للمعرفةِ والفهمِ، وقوله: (فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) القلةُ قد تكونُ على ظاهرِها، وأنّ القليلَ مِن بني إسرائيل آمنَ، مِن حيثُ إيمانُهم ببعضِ الكتابِ دون بعضٍ، ويمكنُ أن يكون مِن استعمالِ القلةِ في نفيِ الشيءِ مطلقًا، فليسَ بالقلوبِ شيءٌ مِن إيمانٍ، لا قليل ولا كثير.
وقدْ أخبرتْ عنهم هذهِ الآياتُ بأنّهم استكبروا وترفّعُوا عن الاستجابة للحقّ، وتفرع عن استكبارهم ثلاثة أمور؛ قتلُهم الأنبياءَ، وتكذيبُهم للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، ثم إعراضٌ عن سماعِ الدعوة، متعللين في إعراضِهم بأنّ قلوبهم محجوبةٌ وبها أغطيةٌ، وأنها غيرُ قادرةٍ بفطرتِها وخلقتِها على سماعِ ما يُدعون إليه، قالوا ذلكَ سدًّا للباب على أنفسِهم، للتيئيسِ منهم، فليس هناك طمعٌ في استجابتهم، ولا الدخول إليهم، وهذا غايةٌ في الأخذِ بأسبابِ الإعراضِ، وقد ذكر اللهُ مثلَ ذلك عن المشركينَ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)[6] (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)[7] (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[8].