المنتخب من التفسير -الحلقة 297 - سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (297)

[سورة المائدة: 64-66]

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(64)

جملة (وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) عطف على ما تقدم عن اليهود في قوله (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا) لبيان خبث سريرتهم وفساد طويتهم، والقائل (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أحدُهم، وهو فنحاص بن عازوراء، ونسب القول إليهم جميعًا لرضاهم به وسكوتهم عنه، و(مَغْلُولَةٌ) ممسكة، كأنها ممنوعة من العطاء بالغُلّ وهو القيد، مِن غَل يغُل، فاليدُ المغلولةُ هي الشحيحةُ التي لا تُنفق، والبخل هو من جملة قبائح اليهود التي اشتهروا بها، وقولهم قبحهم الله (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) هو من جملة قولهم الإثم المتقدمِ ذكره، فوصفوا الله تعالى بالبخل، كما وصفوه في الآية الأخرى بقولهم: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)([1])، وقوله (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم باستعمال اللفظ الذي صدر منهم، للمجانسة والمشاكلة لتحسين اللفظ، دون المطابقة في المعنى بين ما قالوه وما ردّ به عليهم في الدعاء، ومثله يسمى في البلاغة التجنيس، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَعُصَيَّةَ عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ وَغِفَارٌ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأَسْلَمَ سَالَمَهَا اللهُ)([2]) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)([3]) عندما قالوا له في الحديبة: هذا سهيلُ بن عمرو أرسله المشركون عنهم، وقوله (وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) يحتمل أنه إخبارٌ بأن اللعنةَ نزلت بهم، ويحتمل الإنشاء والدعاء عليهم باللعنة، وقد تكررَ في القرآن لعنُهم، وتعددَ بتعدُّدِ كفرياتِهم، وبلْ في قوله (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) للإضراب والإبطال، وبسطُ اليد: الجودُ والكرمُ والعطاء، يقابله قبضُها وغلّها، قال تعالى: (‌وَلَا ‌تَجعَلۡ ‌یَدَكَ مَغلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبسُطۡهَا كُلَّ ٱلبَسطِ فَتَقعُدَ مَلُوما مَّحسُورًا)([4])، فأضرب الله عن كذبهم في قولهم (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) وأبطله، وأثبت ليديه الوصف بالبسط، وذكر اليدين بالتثنية ووصفهما بالبسط مبالغة في الرد عليهم، بما يدلُّ على سعة كرمه، وعظيم جوده وفضله، وأكّدَ ذلك بقوله (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) فهو يعطي ويمنع ويوسع ويضيق وفق مشيئته وحكمته، لا كما زعمُوا هم، فقد يمنع عقوبةً أو إصلاحًا، قال تعالى: ) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)([5])، وقال صلى الله عليه وسلم: (… وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ…)([6])، وجملة (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) عطف على قوله (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) فزيادةُ كفرهم وطغيانهم الذي يبعثُ عليهما الحسدُ، أي: كلما أُنزل إليك من ربك من القرآن والبرهان، وهو ما يزيدُ الذين آمنوا إيمانًا، يزيدُ اليهود بغضهم وعداوتهم لله ورسوله، من مثل قولهم: يدُ الله مغلولةٌ، فلا يزدادون مع بيان الحق إلّا طغيانًا وكفرًا وصدودًا، وقوله (لِلْحَرْبِ) متعلق بـ(أَوْقَدُوا) واللام للتعليل، وإيقادهم لنار الحرب كناية عن إرادتهم لها، ورغبتهم المستمرة فيها، وسعيهم الحثيث إليها، فشغلهم الشاغل تجييشُ الجيوش ودقُّ الطبول، والدسائس والتحريض والمكائد، ولكن الله تعالى يخيبُ سعيهم، ويمنع مرادهم، ويطفئ نارهم بدفعِ كيدهم، وتجنيبِ العالمَين نارهم، و(فَسَادًا) مفعول لأجله، أي سعيهم في الأرض للفسادِ لا لغيره، وفي قوله (فِي الْأَرْضِ) ما يشير إلى أن نطاق سعيهم بالفسادِ واسعٌ في الأرض كلها حولَ العالم، ليسَ له بقعة، وهو مشاهدٌ بالدسائسِ والتجسسِ والفتنِ في كل مكان، وبالعداواتِ بما يؤولُ إلى سفكِ الدماءِ وانتهاك الأموالِ والأعراض، فعملُهم الفسادُ (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

(وَلَوۡ أَنَّ أَهلَ ٱلكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَكَفَّرۡنَا عَنهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأَدۡخَلنَٰهُمۡ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنهُمۡ أُمَّةٞ مُّقتَصِدَةٞ وَكَثِيرٞ مِّنهُمۡ سَآءَ مَا يَعمَلُونَ)(65-66)

(لو) في قوله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا) حرفُ امتناعٍ لامتناع، امتنع إيمانُهم فامتنع تكفيرُ سيئاتهم ودخولهم الجنة، وقوله (لَكَفَّرْنَا) هو جواب لو، دخلت عليه لام التأكيد، فَلَو أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، واتقَوا ما يرتكبونه من المعاصي وتركوه؛ لكفَّر الله (عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) وهدمَ لهم الإسلامُ ما كان قبلَه من الشرك والمعاصي، فلا يؤاخَذونَ عنها، غير حقوق العباد.

وقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) من الإقامة، أصلُها الثباتُ في المكان، ومعنى إقامة التوراة والإنجيل في الآية: توفيةُ التوراة والإنجيل حقهما، بالعمل بما فيهما، والالتزام بأحكامهما، وعلى رأسها الإيمانُ بالله ورسله وترك الكفر، وقوله (وَمَا أُنْزِلَ إليهمْ مِنْ رَبِّهِمْ) أي لو آمنوا بكل ما أنزل إليهم، ولم يحرفوه، وعملوا بما جاء فيه من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنَ اليهودُ بعيسى عليه السلام والإنجيل، وآمنوا بالقرآن، لو استقام إيمانُهم بما أمرهم الله على هذا النحو (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي لرزقهم الله، ولفاضتْ عليهم الخيراتُ مِن كل جانبٍ، ولفُتحتْ لهم بركاتُ السماء والأرض، فعمَّ الخير وكثر الخصب، فالأكل في قوله: (لَأَكَلُوا) يحمل على سَعةِ الرزق الذي يُفتح عليهم، وتخصيصه بالذكر لأنه أعظمُ ما ينتفعون به، ويمكن حملُه على حقيقة الأكل، فالأكلُ من فوقهم ثمارُ الأشجار والغلال، ومِن تحتهم الحبوبُ والبقول والساقط من الثمار، فهم مُنعوا الخير بسبب ذنوبهم، وبما كذَبوا به عن ربهم في قولهم (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) والقصدُ في قوله (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) الاعتدالُ وتركُ الإسراف والغُلو، أي أن قليلا منهم عملُوا بما جاء في كتبهم، وقبلوا الإسلام، فكانوا على القصد دون إفراطٍ ولا تفريط، وكانوا على العدل وسواء السبيل، وهؤلاء هم مَن آمنَ مِن أهل الكتاب بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقد بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يؤتون أجرهم مرتين (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) أكثرُ أهلِ الكتاب بَقوا على الكفر، وساءَ العمل عملُهم لبقائهم على الكفر، وقد تقدم في (سَاءَ) أنه يمكنُ إجراؤُها مجرى بئسَ من أفعال الذم، فيكون المخصوص بالذم هو عملُهم، أي: ساءَ العملُ عملهم، ويمكنُ أن تُحمل ساء على معنى: وكثيرٌ منهم كان سيئًا ما يعملُونه، فيكون الفاعل (مَا يَعْمَلُونَ).

 

[1]) آل عمران: 181.

[2]) المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم لأبي نعيم: 1/ 341.

[3]) البخاري: 2731.

[4]) الإسراء: 29.

[5])            الشورى: 27.

[6])            ابن ماجه: 4019.

التبويبات الأساسية