المنتخب من التفسير -الحلقة 264- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

 الحلقة (264)

[النساء:142-149].

 

(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا)[النساء:142-143].

رجوعٌ لبيان أوصاف المنافقين، فمن أوصافهم أنهم يخادعون الله، وخداعهم  هو ما هم عليه من فسادٍ، وانطواءٍ على الخبث والمكر، بإظهار شيء وإضمار غيره، وأما خداع الله إياهم، فهو من باب المشاكلة، ومقابلة اللفظ بمثله، ومعناهُ استدراجُهم بنِعم الله عليهم، حتى يغتروا ويظنُّوا أنهم آمنُون، ثم يفضحُهم، ويكشفُ أمرهم، ويوقعهم في سوء فعلهم، فتكون الدائرة عليهم، ويخسرونَ الدنيا والآخرة (قَامُواْ كُسَالَى) جمع كَسلان، أي: قاموا إلى الصلاة متثاقلين، في مللٍ وسآمةٍ، كما يقوم المكره، فالمسلمُ يقومُ إلى صلاته مُقبلًا عليها، مُتعلقًا بها، راغبًا فيها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ)([1])، ولذلك جاء النهيُ عن الصلاة عند شغل البالِ؛ بحضرةِ الطعام، أو مدافعةِ الأخبثين([2]) (يُرَآؤُونَ) من المراءاة، والمُرائي: الذي يتظاهر بالعملِ لقصدِ أن يستحسنَه الناس، وسمَّى الحديثُ الرياء شِركًا، وهو الشرك الأصغر، فقد جاء في الحديث القدسي: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)([3]) (وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا) الاستثناء (إِلَّا قَلِيلًا) يصحُّ أن يكونَ من عمومِ الأوقات، أي: لا يذكرونَ الله في وقتٍ من الأوقات، إلا وقتًا قليلًا، وهو نشاطهم إلى العبادة عند حضور مَن يستحسنُ عملهم، لا في غير ذلك من أكثر أوقاتهم، أو الاستثناء من المصدر، المفهوم من قوله (لَا يَذْكُرُونَ) أي: لا يذكرونَ الله إلَّا ذكرًا قليلًا، وهو الذي يَسمعه مَن يصلي معهم؛ ليراؤوه، مثل: التكبير، والسلام، والتأمين، أمَّا مَا سِوى ذلك من القراءة ونحوها، فلا يكترثونَ به (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ) مُذبذَبين من الذبذبة، وهي التردُّد، وشدةُ الاضطراب، أصلها الشيءُ المعلقُ الذي يحركُه الهواء، والإشارة في قوله (بَيْنَ ذَلِكَ) تعود إلى غير معينٍ من أحد أمرين، يدل عليه السياق؛ وهو هنَا الإيمانُ والكفرُ، المفهوم من قوله (لَا إِلَى هَؤُلَآءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَآءِ) وتكرار النفي في قوله (لَا إِلَى هَؤُلَآءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَآءِ) معناهُ نفي الأمرَين وهما الإيمان والكفر عنهما، كقوله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى)([4])، فهم لا ينتمون إلى المؤمنين حقيقةً، ولا ينتمونَ إلى الكافرينَ المظهرين لكفرهم، فهم في حقيقة أمرهم منتمون إلى نوعٍ آخر من الكفر، أشدّ مِن الكفر الظاهر وهو النفاق،  فهم كما قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)([5]) (وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) لن تجد سبيلًا توصلُه إلى الهدى، ومن يضللِ اللهُ فمَا لهُ من هادٍ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)[النساء:144].

(سُلْطَانًا) السلطانُ يذكر ويؤنث، وله معنيان؛ بمعنى الحجةِ والبرهان، وبمعنى المالكِ الذي يَقدر على ما يريدُ، ويُسمَع ويُطاع، و(مُبِينًا) أي سلطانًا ظاهرًا بَيِّنًا نافذًا، لا يردّه أحدٌ، والآية نهيٌ للمؤمنين عن أن يتخلقوا بأخلاقِ المنافقينَ ويتشبهوا بهم في موالاةِ الكافرين، فالمنافقونَ كان ظاهرُهم للمؤمنين، وولاؤُهم للكافرين، قال تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)([6])، فقيل للمؤمنين: لا تفعَلوا فعلَهم، ثم حذرَهم من عاقبةِ أمرِهم إذا فعلُوا، أتريدون أن تُقيموا على أنفسكُم الحجةَ بفسادِ إيمانكم، بانتمائِكم في الموالاةِ إلى الكافرين؟ أو أتحبُّون أن يصيبكم عقابُ الله، وينالكم سلطانُه، الذي لا يقدر أحدٌ على رده؟

(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:145-146].

تحذيرٌ للمنافقين، وتعريضٌ بمَن يفعلُ فعلهم، ممن يُوالي الكافرين، فأخبرَ الله في ذلك أنّ المنافقين أشدّ أهلِ النار عذابًا في قعرِ جهنم، في أحطِّ دركاتها، والدركُ: الطبقةُ في النزول، خلاف الدرجةِ، الطبقةُ في الصعود، ولذا فإن الجنةَ درجاتٌ ومنازلُ، بعضُها فوق بعض، والنارُ دركاتٌ، طبقاتٌ بعضُها تحت بعضٍ، والخطاب في (وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) لكل مَن يتأتى منه الخطاب، فليس لمن حلّ به العذابُ من المنافقين من يفكّ عنه العذاب، ويفديه، أو ينصرُه حين يواجهُ مصيره (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) من النفاق (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوه من بواطنهم الفاسدة (وَأَخْلَصُوا) إيمانهم، واعتصموا بالله، وتعزّزُوا به، وانقادوا إليه في السرِّ والعلن، على خلافِ ما كانوا عليه مِن مخالفة السر للعلن (فَأُولَئِكَ) الإشارة إلى الذين تابوا؛ تنويهًا بشأنهم؛ لأنهم صاروا من المؤمنين، وفي معيتهم، وسوف يؤتيهم أجرًا عظيمًا، أجر الدنيا والآخرة، وأُعيد الظاهر في قوله (يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) دون الضمير (يُؤْتِيهِم) مدحًا لهم، بتشريفِهم بوصف الإيمان.

(مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء:147].

الاستفهام في (مَا يَفْعَلُ) للنفي، والمعنى ما يصنع الله بعذابكم، وما النفع الذي يعود إليه منه؟ لا شيء مِن ذلك، فلا ينتفع من عذابكم بشيءٍ إن شكرتم وآمنتم، فلا مصلحة له في عذاب المطيع، ولا يعذّب أحدًا لذاته؛ حبًّا في عذابه، أو تشفيًا وانتقامًا منه، وإنما يعذبُ مَن يعذبه؛ لاستحقاقه لذلك، بسبب ما فيه من صفات الكفر والنفاق، أو المعصية، فإذا ترك هذه الصفات، وتابَ، واتصفَ بالإيمان والطاعة، فإن اللهَ يفرحُ بتوبته، ويكافئُه عليها، ويبدلُ سيئاتِه حسناتٍ، فإنه سبحانه شاكرٌ، ومن صفاته الشكورُ، الذي يعطي على الحسنةِ أضعافَها، ومِن صفاتِه أنه عليم، لا تخفَى عليه خافيةٌ، فيجازي كلَّ أحدٍ بما يستحقّ، ولا يظلم ربكَ أحدًا.

(لَّا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)[النساء:148-149].

بعد أن ذمَّ الله المنافقين، ونَهى عن مجالسة المستهزئين، ربما ظنَّ المسلمون أنه أُذن لهم في المجاهرة بالسوء، مع كل من يشتبهُ في نفاقه، فنهاهُم الله سبحانه عن المجاهرة بالسوء، والجَهر معناه: أن يُسمِع المُتكلمُ مَن يليهِ، فإذا كان الكلامُ دون ذلك، لا يسمعُه الغير، فلا يُسمّى جَهْرًا، ومعنى الجهر بالسوء هو: ذكرُ الغير بقبيح الأوصافِ والسبِّ والشتم ونحو ذلك، فهذا مأذونٌ به لمن ظُلم، فإن الله تعالى يقول: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ)([7])،  ولا يؤذن به لغيره؛ لأن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحدٍ، وقوله (لَا يُحِبُّ اللهُ) معناه: أنه يَكره ويَنهى عن المجاهرة بالسوء، وذلك يقتضي تحريم الإساءة في غير ما استثني من ردِّ الظلم، فالله تبارك وتعالى يقول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([8])، (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)([9])، هذا ما يكون عليه المسلم في عامة أحواله، وقوله (إِلَّا مَن ظُلِمَ) استثناءٌ من النهي، والمستثنى مضافٌ محذوفٌ، تقديره: إلا جهر مَن ظُلم، كجهرِ المتظلم بالشكوى من الظالم، والدعاء عليه، فهو معفوٌّ عنه، كما قال تعالى: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)([10])؛ لأنه قصاصٌ من الظالم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)([11])، ومفهوم (إِلَّا مَن ظُلِمَ) أن غير الظالم لا يتعرض له بالسوء، لا جَهْرًا ولا سِرَّا، وقوله (بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) تنبيهٌ بالنهي عن الأدنى وهو القول بالسوء، على الأعلى وهو فعلُ السوء، فيقتضي النهي عن السوء بالفعل، من باب أولى (وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) سميعًا لمن أساء، وسميعًا لمن صبرَ أو انتصر، عَلِيمًا بهم، والعلم بأعمال العباد يقتضي الجزاءَ عليها (إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ) تعميمٌ للجزاء عن الخير بأنواعه، ما أُظهر منه وما أُخفي، والمعنى: إن تُبدوا للمجاهر بالسوء خيرًا، وحُسنًا في المعاملة، ولِينًا في القول، أو تُضمروا ذلك الخير، والمودة الحسنة له في أنفسكم، أو تَفعلوا مع المسيءِ ما هو أعظمُ في البر من ذلك، بأن تَعْفُوا عن السوء، غَفر الله لكم، وعَفى عنكم، فجملة (فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) ليست هي جواب الشرط (إِن تُبْدُواْ) وإنما هي دليل الجواب المقدر، أي: إن تُبدوا خيرًا، فإن الله يعفو عنكم؛ لأنه أولى بالعفوِ منكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا، وَكَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِغِلْمَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، قَالَ: فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ)([12])، ولأن من أسماء الله وصفاتهِ العفوّ والغفور، ومن الإيمان بأسمائهِ الحسنى وصفاتِه، التحلِّي بما دلَّت عليه أسماؤه وصفاته.

[1]) البخاري:1150.

[2]) مسلم:560.

[3]) مسلم:2985.

[4]) القيامة:31.

[5]) البقرة:14.

[6]) البقرة:14.

[7]) البقرة:194.

[8]) الإسراء:53.

[9]) البقرة:83.

[10]) الشورى:41.

[11]) الشورى:39.

[12]) أحمد:17083.

التبويبات الأساسية