المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 198- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

الحلقة (198)

(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)[آل عمران:146-151].

(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ) كأيّن: اسمٌ يفيد التكثير، مثل كَم، والتكثير يقع على التمييز الذي بعده، وهو هنا (مِّن نَّبِيٍّ)، و(رِبِّيُّونَ) نسبة إلى الربّ، أي مَن يتبعون شريعة ربهم([1])، و(كَثِيرٌ) صفة لـ(رِبِّيُّونَ) لفظه مفرد ومعناه الجمع، والمعنى أنه في كلِّ الأزمنةِ أناسٌ كثيرون أوفياءُ لأنبيائهم، قاتلوا معهم أعداءَهم، ناصرين الحقّ، قائمين بأمر اللهِ، على منهجه وشرعهِ، وما يفعله أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَن سار على هديهم – في نصرة الحقّ وقمع أهلِ الباطلِ – هم مِن أولئك الكثرةِ، الذين أثنى عليهم القرآنُ، المنسوبين إلى الربِّ في قوله: (رِبّيُونَ كَثيرٌ) (فَمَا وَهَنُوا) الوهن: الفتور والارتخاء (وَمَا ضَعُفُوا) بالخذلان والتخذيل، والتخويف مِن قوة العدو وعدته وعتادهِ، بل ثبتوا وصبروا وجالدوا عدوّهم، معوّلين على وعدِ اللهِ لهم بالنصر والتمكين (وَمَا اسْتَكَانُوا) من السكون: الخضوع والاستسلام، أي كم من الأنبياء ومَن كان على منهجهم في مجالدة العدوّ، لهم أنصارٌ كثيرون، علماء عاملونَ بشريعة ربّهم، لم يصبْهم الخور ولا الفتور ولا الضعفُ بقتلِ مَن قُتل منهم، فلم يستسلموا لأعدائهم، ولم يخضعُوا لهم، ولم يعطوا الدنية في دينهم، بل صبروا وثبتوا على ما كان عليه أنبياؤُهم، عندما اشتدّ البلاء، وعظمَ الخطب، فكانوا من الصابرين الذينَ أحبّهم الله، ومَن أحبه الله أيَّده ونصَره.

(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)([2]) الإسرافُ: تجاوزُ الحدّ الذي حده الشارع بالزيادة عليه، أو التقصير فيه، فهم مع ثباتهم وصبرهم على ما أصابهم في سبيل الله، وتمسكهم بالحق الذي هم عليه، غيرُ مبالين بالأذى الذي يلحقُهم مِن أهلِ الباطلِ، وجهل الجاهلين، وما كان لهم قول يقولونه في سبب ما يصيبهم سوى لومِ أنفسهم، وتفريطهم وتقصيرهم، لذا هم على الدوام  يتضرعون إلى الله تعالى أن يعفوَ عنهم، ويغفرَ ذنوبهم، وإسرافهم على أنفسهم بالتقصير في حقوقِ ربهم عليهم، ويطلبون منه الثبات والنصرة والتأييد، فأثابهم الله على ذلك وكافأهم، واستجاب لهم؛ لإنابتهم وإظهار فقرهم وحاجتهم وذلهم، واعترافهم بذنوبهم، وأعطاهُم ما يريدون، ففازوا بالحسنيين؛ أعطاهم التمكين والنصر والغنائم، وحسنَ الذكر، وهذا هو ثواب الدنيا، وأعطاهم ما هو أحسنُ منه؛ ثواب الآخرة، الجنة والنعيم المقيم، وخصَّه بوصفِ الحسنِ لدوامهِ وخلوِّه من الأكدار، بخلاف ثواب الدنيا، فهو منغصٌ زائلٌ، وقد بينتِ الآية عدةَ النصر في المعارك، فليس له عدةٌ سوى التذللِ والاستغفارِ والتوبة، والبعد عن المعاصي، مع الثباتِ والصبرِ على مقارعة العدوّ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) طاعةُ الذينَ كفروا: امتثالُ أمرهم والانقيادُ لهم؛ رهبةً وخوفًا منهم، والردُّ على الأعقاب يمكن أن يرادَ به الارتدادُ عن الدِّين، ويمكن أن يراد ما هو أشملُ، وهو إصابتهم بالوهنِ والإحباط، فينهزموا، على نحو ما فَعل مَن قال يوم أحد: لو كلَّمْنا عبدَ الله بن أُبي يأخذ لنا أمانًا مِن أبي سفيان([3])، كما يدل عليه قوله الآتي: (بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) عندما أصيب المسلمون في أحد، وانكفأ عليهم العدوُّ وضعفوا، حذّرهم الله أن يصيبهم الوهن والفشل، ويرجعوا على أعقابهم خاسرين، وطمأنهم أنّ اللهَ وليُّهم، ومَن كان اللهُ وليَّه فلن يضرَّه تحالفُ الأعداء، ولا تناصرهم عليه، فليس هناك قوة في الأرضِ تقدرُ على مَن تولى الله نصرته، فهو خيرُ الناصرين.

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) حقيقةُ الإلقاءِ طرحُ الشيء ورميُه، والمعنى: سنجعلُ الرعبَ في قلوبهم، والسين في سنلقي ليست للاستقبال؛ لأن الرعبّ كان بسبب الشرك، والشرك موجودٌ فيهم قبل هذه المعركة، بل السين لتأكيد إلقاء الرعب، بمعنى: نلقي ونجعل الرعب في قلوبهم مؤكدًا، والرعبُ: الفزعُ وشدةُ الخوف (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ) الباء للسببية، أصيبوا بوقوع الرعب في قلوبهم، بسبب شركِهم بالله، ومَن قال الباءُ للمقابلة والعوض، فهو قريبٌ من هذا المعنى، أي جعل الرعبَ في قلوبِهم مقابلَ شركِهم (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) لم ينزلْ بهذا الشركِ الذي أشركوه مِن الله وحيٌ ولا برهان، أي: لا حجة عليه أصلًا حتى تَنزلَ([4]) (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) المأوى: المكان والمستقر، فمستقرهم ونهاية أمرهم النار (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) المثوى: المقام، فبئس المقام مقامهم ومثواهم، والتعبير بالظاهر (الظَّالِمِينَ) بدل الضمير (مثواهم) يدل على أن سببَ مصيرهم إلى النار هو ظلمُهم؛ لأنّ تعليقَ الحكم بالمشتقّ يؤذنُ بعليةِ ما منه الاشتقاقُ.

[1]) (وكَأيّن) مبتدأ، وجملة (قَاتَلَ) خبر، وجملة (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) حالية.

[2]) القراءة بنصب (قَوْلَهُمْ) أتت على الراجح في الإعراب؛ أنّه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما هو المسند إليه، والمصدر المؤول (أَنْ قَالُوا) أعرف؛ لذا كان اسم (كَانَ) مؤخرًا.

[3]) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 4/196.

[4]) من باب نفي المقيد لانتفاء قيده الملازم له، فلو كانت هناك حجة لنزل بها وحي، أي: لا حجة لهم حتى ينزلها الله، على حدّ قول امرئ القيس: على لاحِبٍ لا يهتدي بمناره، وقول القائل: وَلا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ، أي: لا ضب بها أصلا حتى ينجحر، ولا منارة للطريق حتى يهتدى بها.

التبويبات الأساسية