بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (110).
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة:212-213].
(زُيِّنَ) من التزيين، وهو تحسين صورة الشيءِ في النفسِ لترغبه، والمعنيّ به تحسين الدنيا عند الكافر، وإغراؤُهُ عليها، حتى يتهالكَ في تحصيلِ الضارِّ منها والنافعِ، والمشروعِ والمحظورِ، فهو لشغفهِ بها جعلَها مبلغ علمِهِ، وغاية مقصودهِ، ورضي بها، واطمأنّ إليها، ولا يرجو غيرَها، وليس حبُّ الدنيا للمؤمن بمذمومٍ، فالمؤمنُ يحبُّ الدنيا أيضًا، لكن على أنّها مطيةٌ للآخرة، وحياة قصيرة يغتنمُها للأعمال الصالحةِ، حيث الراحة الكاملةُ، والسعادة الأبديةُ فيما بعدها، وهذا هو الفرقُ بين محبة المؤمن للدنيا ومحبةِ الكافر. وقد نُسب التزيينُ في القرآن إلى الله تارةً، كقوله: (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ)( )، وإلى الشيطان تارة أخرى، كقوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)( )، فنسبته إلى الله تعالى نسبة إيجاد وخَلق؛ لأنّ الفاعل لكلّ شيء على الحقيقة هو الله، ونسبة التزيين إلى الشيطان نسبة تحسين ووسوسة وإغراء بما هو شرّ، كما أخبر عنه القرآن: (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)( ).
(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يستهزئون بالفقراء والضعفاء من المؤمنين، كبلال وصهيب وابن مسعود رضي الله عنهم؛ لإعراضهم عن الدنيا، وهو كما أخبر الله تعالى عن قوم هود عليه الصلاةُ والسلام: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا)( ) (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وليس كما زعموا، فإنّ الذين يسخرون منهم ويرونهم ضعفاء هم فوقهم يوم القيامة، وذكِّروا بالتقوى في قوله: (والذين اتقوا) للتنويهِ بأنها سبب الفوقية للمؤمنين؛ ليزدادوا عليها حرصًا، وهي فوقية حسية في عليين، كما قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ)( )،كما هي فوقيةٌ معنوية أيضًا، حيث ينعكس الحالُ يوم القيامة؛ فالمؤمنونَ الذين كانوا ضعفاءَ في الدنيا، هم الذين يضحكون من الذين كفروا، كما قال تعالى: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)( ).
(وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يرزقُ مَن يشاءُ من الفريقينِ؛ مَن يريدُ الدنيا، ومَن يريدُ الآخرة، كما قال تعالى: (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)( )، فيمدُّ المؤمنين إكرامًا وابتلاءً، ويزيد في إمداد الكافرين بالنعم استدراجًا وخِذلانًا.
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) (النَّاسُ) اسم جمع، لا واحدَ له من لفظه، واللام فيه لاستغراق الجنس (أُمَّةً) الأمة الجماعة التي يجمعها شيءٌ واحدٌ، مِن الأَمِّ، وهو القصد، وقد مرَّ التعرضُ للفظ الأمّة (وَاحِدَةً) متحدة متوافقة، مهتدية بهدي الفطرة واستقامتها، وعلى شريعة من وحي النبوات، بعد آدم عليه السلام أحقابا طويلة.
(فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (فَبَعَثَ) البعث إرسال الرسل، والفاء للتفريع، والذي يناسب تفريع بعثة الرسل على ما قبله هو اختلاف الناس وافتراقهم، لا كونهم أمة واحدة على استقامة وهداية، لذا فإن فاء (فَبَعَثَ) عاطفة على محذوف، تقديره: فاختلفوا فبعثَ الله، وكان ذلك عندما تغير الناس قبل بعثة نوح عليه السلام، وانحرفوا عن الفطرة، إلى الشرك في الاعتقاد وعبادة الأوثان، وفسادُ الاعتقاد لا يخفى أنه أصلٌ لكل ذميمِ الأفعالِ، فاحتاج الناس بسبب هذا الانحراف إلى بعثة الرسل، وكان أولهم نوح عليه الصلاة والسلام، وقبلَه كانت نبوات قاصرة على من بعثوا، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)( )، وفي حديث الشفاعة تصريحٌ بذلك، فعندما يأتي الناس إلى آدمَ يذكرُ آدمُ عليه الصلاة والسلام خطيئتَه، ويقول: (ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ)( )، و(النَّبِيِّينَ) جمع نبي، والمراد بهم الرسلُ؛ لأنّ اللهَ تعالى بعثهم، والبعثُ هو الأمرُ بالتبليغِ لأقوامِهم، والتبليغ وظيفةُ الرسل، بقرينة قوله فيما بعد: (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) والمتفق عليه منهم خمسة وعشرون، وهم: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب ويوسف ولوط وموسى وهرون وشعيب وزكريا ويحيى وعيسى وداود وسليمان وإلياس واليسع وذو الكفل وأيوب ويونس ومحمد عليهم الصلاة والسلام، والمختلف فيه منهم: يوسف المذكور في غافر، فقيل: إنه غير يوسف بن يعقوب عليه الصلاة والسلام، وعزير ولقمان وتبع ومريم عليهم السلام (مُبَشِّرِينَ) للمؤمنين والطائعين بالثواب وحسن الجزاء (وَمُنْذِرِينَ) للعصاة والكافرين بالعقاب وسوء المصير (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) إنزال الشيءِ: الإتيان به من فوق، و(الْكِتَابَ) النص المكتوب المنزل بالوحي من الله بأحكام الشريعة، و(أل) فيه للاستغراق، فيشملُ جميع الكتب المنزلة، ومقابلته مع (النَّبِيِّينَ) مِن مقابلة الجمع بالجمعِ، التي تقتضي القسمة آحادًا، لينفرد كل نبي بكتابٍ، ويصح أن تكون (أل) للعهد الذهني، على معنى: أنزل الله مع كل نبي كتابه المعهود، المعروفة نسبته إليه، أي أنّ الله تعالى بعث الرسل بالكتب، ولا يلزم منه أن لكلِّ واحد منهم كتابًا يخصه، فمنهم مَن أوتي كتابًا، ومنهم مَن عمل بكتاب مَن كان قبله (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ليحكم الكتاب أو كل واحد من النبيئين بين الناس، مُزيلًا بالحق الذي يحكم به ما التبس على الناس، فيما اختلفوا فيه من الحق؛ لأنه عند الاختلاف كلّ فريق يدَّعي أنه هو الذي على الحق.