المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 31 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (31).

 

(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).

 بعدَ أنْ فضَّل الله تعالى آدم بالعلم، وكافأه على ذلك بأمر الملائكةِ بالسجود له؛ أعطاه تكريمًا آخر، وافتتحه بنداء آدم باسمه؛ ليرفع مِن شأنه في الملأ الأعلى، فقال: (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ).

وفيه تنبيهٌ على أنّ مَن أعطاه الله تعالى العلم، يكونُ جديرًا برفع الدرجة والتقدير والتفضيلِ، وبالعيشةِ الطيبة الهانئة، فبعدَ أن رفعَ شأنهُ بين الملائكة بالعلم، كافأه بالجنة.

فقوله: (اسْكُنْ)؛ أمرٌ لآدم بالإقامة والعيش في الجنةِ، بعدَ إخراج إبليس منها لكفرِه، وهو أمرُ امتنانٍ، وليس أمرَ تكليفٍ، يتطلب السعي والعمل على دخولِها؛ لأنه لا قدرةَ له على ذلك، و(أنْتَ) ضمير فصل بينَ المعطوف والمعطوفِ عليه؛ ليصحَّ عطفُ الظاهر على ضميرِ الرفع المتصلِ، وهو استعمالُ القرآن الشائع، كما قال تعالى في الآية الأخرى: (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)[1]، وعليه جمهور النحاة.

(وزَوْجُكَ): الزوج كلُّ شيءٍ مقترن بغيرِه، مكملٌ له، قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)[2]، مِن الإنسانِ ومن الحيوانِ والنباتِ، بل في الخليةِ، وفي كلِّ شيء خلقَه الله، جعل فيه سالبًا وموجبً مقترنانِ؛ لتمضي الحياة، وتتطور وتتجددَ وتنموَ، إلى أن يأذنَ الله بزوالِها وفنائِها.

 والمرادُ بالزوجِ هنا امرأة آدم، ولم يرد اسمُها في القرآن، ولا شاعَ اسمها كذلك في السنة، ووردَ في بعضِ الآثار تسميتُها حواء.

ولما كان الزوجُ اسمٌا وليس صفةً، لم تلحقهُ التاءُ في المؤنثِ، فيقالُ للمرأة أيضًا زوجٌ، هذا هو المشهورُ، وورَدَ قليلا في السنةِ زوجة، بالهاء للأنثى، واستعملَه الفقهاءُ كذلك، رفعًا للّبسِ، في مثل قولهم عندَ تنازعِ الزوجين: القولُ للزوجة، أو القولُ للزوج؛ للتمييز.  

و(الجَنَّة)؛ البستانُ الذي زينتهُ المياهُ والخضرةُ والأشجارُ والعرائشُ بالثمار، والجنةُ التي دخلَها آدم هي جنةُ الخلدِ المعهودة، التي وعدَ اللهُ المتقين، ولا يردُ عليه أنَّ مَن دخلَ الجنةَ لا يخرجُ منها؛ لأنّ ذلك يكونُ لمن دخلَها بعد الابتلاء، لا مَن أُدخلَها ابتداءً.    

(وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا)؛ وكُلا ممّا اشتملت عليهِ مِن خيرات مأكولة، أكلًا رغدًا هنيئًا متجددًا بسخاء، دونَ تعبٍ ولا عناءٍ، والأمر بالأكلِ للإباحةِ، بقرينة قوله تعالى: ( حَيْثُ شِئْتُمَا).

وقال هنا: (وَكُلَا)، وفي الأعرافِ: (فَكُلَا)[3]، بالفاء المفيدة للتعقيبِ؛ لأنّ آية الأعرافِ الأمرُ بالسكنى فيها متضمنٌ معنى الأمر بالدخولِ؛ لوقوعه عقب أمرِ إبليس بالخروج: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا)[4]، فناسبَ أن يقعَ عقبه الأمرُ بالأكلِ مرتبًا على الدخولِ، إذ ليسَ هناك احتمالُ أنْ يقعَ الأكلُ قبلَ الدخولِ، والأمرُ في سورة البقرة هو أمرٌ بالسكنى لا بالدخول، والسكنى الاستقرارُ والمقامُ، ولا يلزمُ أن يكون الأكلُ عقبه، فقد يسبقه الأكلُ، لذا جاءَ العطفُ بالواو، التي لا تقتضي الترتيبَ.

(وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)؛ استثنى الباري مِن الجنة شجرةً، نهى آدمَ وزوجَه أن يأكُلا منها، ونبَّههُ على ذلكَ بالنهيِ عنِ الاقترابِ منها؛ تَحوُّطًا، وسدًّا لذريعةِ الوقوعِ فيها، حتّى لا يقعَ المحظورُ.    

 

واختلف العلماءُ في الشجرةِ التي مُنع منها؛ أهيَ التينُ أو الكرمُ (العِنبُ)، أو غيرُ ذلك، ولا دليلَ لأحدٍ على تعيينِها، وموضعُ العبرةِ هو أنّ الله تعالى نهى آدم وزوجَه عن شجرةٍ؛ فخالفَا النهي، وأكلا منها، فعوقِبا بالخروج مِن الجنة، ولو كانَ في التعيينِ مصلحةٌ لجاءَ به الخبر.  

وفي منع آدمَ من الشجرةِ عندما دخل الجنةَ، ما يدلُّ على أنّ دخولَه لا يدومُ؛ لأنّ المخلدَ لا يُمنع من شيءٍ، ولا يقعُ عليه أمرٌ ولا نهيٌ.

(فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ): فتكونَا؛ يصح أن ينصب بأن مضمرةٍ بعد فاء السببيةِ؛ لتقدم النهي، ويصحّ فيه الجزمُ، عطفًا على الفعل المجزوم: (لَا تَقرَبَا)، والظلمُ تجاوزُ الحدِّ، ووضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، لذا قالتِ العربُ: ومَن يُشابِه أبَهُ فما ظلَمَ، أي: مَن يشابِه أباه لم يَضعِ الأمرَ في غيرِ موضعِه، والظلم درجاتٌ؛ أعلاه الشرك بالله تعالى، قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[5]، وأقلّ منه ظلمُ المعاصي، وهو على مراتب، بحسبِ التعدّي والحقوق المتعلقةِ به، وأدناه الصغائرُ، وفي وصفِ مخالفةِ النهيِ في الآيةِ بالظلمِ، ما يدلُّ على أنّ الأصلَ في النهي التحريمُ؛ لأنّ المكروهَ لا يوصفُ بالظلم.

 


[1] [الأنبياء:54].

[2] [الذاريات:49].

[3] [الأعراف:19].

[4] [الأعراف:18].

[5] [لقمان:13].

التبويبات الأساسية