المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 196- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (196)

(وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران:143-144].

(وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) تمني الموت بمعنى تمني الشهادة، وفي الحقيقة هم كانوا تمنوا أسبابها، وهو  الخروج إلى العدوِّ في أُحد، ليبذلوا أرواحهم في نصرة دين الله، فيدركوا الشهادة، والضمير في (تَلْقَوْهُ) و(رَأَيْتُمُوهُ) يعود على الموت، أي: تمنيتم الموت قبل أن تلقوه، وجملة (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) حالية، مؤكدة لقوله: (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد بدرًا يتشوقُ أن يلقَى العدو، حين أتى على مشارفِ المدينة عند أُحد، وهم مَن كانوا قد أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أُحد، فقال لهم الله: لقد كُنْتُمْ متشوقين إلى الشهادة؛ لتُقتلوا في سبيل الله، نصرةً لدينه، قبل أن تخرجوا إلى العدو، فلما خرجتم إليه ووقعَ ما وقع، والتفَّ عليكم العدو، رأيتم حينها الموت رأي العين، رأيتم شدته وهو يحدق بكم، ويتخطف إخوانكم، ولم تثبتوا، فكانت إصابة العدو منكم عقوبةً لكم، على مخالفتكم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون من الغنائم، وهذا هو محل العبرة، وتمني لقاء العدو منهي عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ(([1])، أما تمني الشهادة في سبيل الله والدعاء بذلك، فهو مرغبٌ فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ)([2])، وقد دعا عمرُ وطلبَ الشهادة، وكذلك عبد الله بن رواحة، ولا يلزم منه تمني الغلبة للظلمة؛ لأن النصر يتحققُ مع حصول الشهادة لبعض جيش المسلمين، كما وقع في بدر وغيرها من المواقع، التي انتصر فيها المسلمون.

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) محمد: الاسم الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سماه به جده عبد المطلب؛ ليكون رفيعَ الذِّكْر محمودًا، وقد كان كذلك، قال تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)([3])، وهو محمد وأحمد والعاقب والحاشر، ووردتْ أوصافُه في التوراة، وبَشَّر به وباسمه عيسى عليه السلام، قال تعالى: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)([4]) (خَلَتْ) مضت وذهبت، وفي قوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ) قصر بالنفي والاستثناء، من قصر الموصوف على الصفة، أي: ما هو إلا رسولٌ من الرسل الذين مضوا وماتوا، فيجري عليه ما جرى عليهم، وهذا مشهدٌ آخر من مشاهد غزوة أحد، فعندما أصيب المسلمون يومها كان مصعب بن الزبير – صاحب الراية – يذبُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قتله عبدُ الله بنُ قَمِئَة([5])، الذي شجَّ وجهَ النبي صلى الله عليه وسلم، وظنَّ أنه قتلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: قَتلتُ محمدًا، وأشاعَ المرجفون ذلك، وصرخَ صارخٌ: ألَا إنّ محمدًا قد قُتل، فانْكَفأَ الناسُ وزُلزِلوا، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يثَبتُهم ويقول: (إليَّ عبادَ الله) فانحاز إليه نحوٌ مِن ثلاثين مِن أصحابه، حتى كشَفوا عنه المشركين، وفَعلَ الإرجافُ والإشاعةُ بالمسلمين فعلَهما، فقال بعضُهم: ليتَ ابنَ أُبيٍّ يأخذُ لنا أمانًا مع قريش؛ لنعودَ إلى مكة، وأفصح المنافقون عمّا في قلوبهم مِن النفاق، فقالوا: لو كان نبيًّا ما قُتل، ارجعوا إلى إخوانكم في مكة، ودينكم القديم، وكان لأنس بن النضر موقفٌ يُذكر له، فنادى في المسلمين: “يا قوم؛ إن كان محمد قُتل، فإن ربَّ محمدٍ حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعده، فقاتلوا، وموتوا على ما ماتَ عليه”، وقال: “اللهم إني اعتذرُ إليك مما قال هؤلاءِ، وأتبرأُ إليكَ منه”، وشدَّ على المشركين  بسيفه حتى قُتل([6]).

(أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) الاستفهام إنكاري، والفاء للعطف، والإنكار على ما رتبه عدوهم على الإشاعة بقتله صلى الله عليه وسلم، من التخلي عن نصرته، والرجوع إلى ما كانوا عليه مِن الشرك، والموت: أن يأتيَ الإنسانَ أجلُهُ بدون فعلِ فاعلٍ، والقتل: أن يأتيه أجلُه بفعل غيره، في غزو أو غيره، والانقلاب: الرجوع والنكوص، والأعقاب: جمع عقب، مؤخر القدم، ومنه الحديث: (وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّار(([7])، وأصل الانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى المكان، وهو هنا الارتدادُ عن الدين، والمعنى: فلو أنّ محمدًا ماتَ في فراشه، أو قُتل في الغزو كما أرجفَ المرجِفون، أترتدُّون عن الإسلام بسبب موته، وترجعون عمَّا أنتم عليه من الحقّ، بعد أن هداكم الله، وتتركون دينكم؟! (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ) ويرتدَّ عن دينه (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا) فلن يضره بردته شيئًا من الضرر، مهما كان قليلا، ولن يضر إلا نفسه، فتنكير (شَيْئًا) للتقليل (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) الذين ثبتوا عند المحنة، وثبَّتُوا الناسَ وذكَّروهم، وأبطَلوا كيدَ المنافقين، وإرجافَ المرجِفِين.

 

[1]) البخاري: 2966، ومسلم: 4563.

[2]) البخاري: 7226، ومسلم: 1876.

[3]) الشرح: 4.

[4]) الصف: 6.

[5]) مسند الشاميين للطبراني 453، وليس فيه كثير مما ورد في القصة.

[6]) الدرر في المغازي والسير ص/149.

[7]) الصف: 6.

التبويبات الأساسية