بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (119).
(وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 224-225].
(وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ) لا تجعلوا اسم الله، لأنّ الفعل - وهو هنا (تجعلوا) - لا يتعلق بالذاتِ - أي بالمسمَّى - وإنما يتعلق بالاسم (عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) أي: لا تجعلوا اسم الله في اليمين معرّضا ومبتذلا، لسببٍ ولغيرِ سببٍ، أو: لا تجعلوه معترضًا ومانعًا، فعلى الأول يكون المعنى: لا تجعلوا اسم الله العظيم معروضًا، تبتذلونه بالحلف في كل شيءٍ، جليلٍ أو صغير، وهو ما يشير إليه قول مالك رحمه الله في معنى الآية، قال: "بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء"( )، وهذا منهي عنه، كما قال الله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ)( )، وعليه تكون جملة (أَنْ تَبَرُّوا) تعليلًا للنهي، أي: اتركوا الإكثار من الحلف لأجل أن تبرُّوا في أيمانكم، ولا تحنثوا؛ لأن مَن أكثر الحلف تعرضَ للحنث. وعلى الثاني يكون المعنى: لا تجعلوا الحلف بالله حاجزًا معترضًا، يمنعكم من فعل ما هو برٌّ وخيرٌ من المحلوفِ عليه، فتمتنعونَ عن الخير مِن أجلِ أَيمانِكم، وهذا الامتناعُ أيضًا منهي عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ)( )، ويكون قوله بعد ذلك: (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا) عطف بيان، أي: لا تجعلوا الحلف يمنعكم مِن فعلِ المحلوف عندما يكون عمله مِن البرِّ والتقوَى، في إصلاح ونحوه، كمن يحلف إذا غضبَ ألَّا يحسنَ إلى أحدٍ أبدًا، أو لَا يصلَ رحمَه، أو لا يعملَ في إصلاحِ ذاتِ البين، فهذا مطالب بالحنث في يمينه ويُكفر، قال الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)( ) نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، عندما حلف ألَّا ينفقَ على مسطح بن أثاثة رضي الله عنه مِن قراباتِه، لمشاركته في حديثِ الإفك عن عائشة رضي الله عنها، المبرأةِ بالقرآن، وقال صلى الله عليه وسلم: (أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ) . (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه حالُ مَن كان باليمينِ آثمًا أو بارًّا. (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ) من المؤاخذة: وهي المحاسبة والعقوبة (بِاللَّغْوِ) أصلُ اللغو الساقطُ من الكلام، وهو هنا الجاري على اللسان من اليمين بغير قصد (فِي أَيْمَانِكُمْ) جمع يمين: القسم والحلف، سُمي اليمين حلفًا؛ لأنهم كانوا إذا عقدوا حلفًا صفق الرجل يمينه بيمين صاحبه، فكان يمينًا وكان حلفًا (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) يؤاخذكم بما قصدتموه وعزمتم عليه وعقدتموه من الأيمان، ثم حنثتم فيه، وهو مقابل اللغو، فالله تعالى لا يؤاخذُ باللغو في اليمين بعقوبةٍ ولا كفارة، ولغو اليمين عند جماعة من أهل العلم ومنهم الشافعية: ما سبقَ وجرى على اللسان دون قصد، مثل: لا والله، بلى والله، وعند جماعة آخرين ومنهم المالكية: اللغو ما كان الحلف فيها عن شيء في الماضي، ظن الحالفُ حدوثه فتبين خطؤه، وإنما المؤاخذة بالعقوبة أو الكفارة في اليمين بما كسبت القلوب، وقصدت وعزمت عليه، وهي ما كانت من قبيل الغموس، الذي يتعمد صاحبه الكذبَ على أمر مضى، يحلف أنه فعله، وهو لم يفعلهُ، ويمين الغموس الكذب ليس لها كفارة إلا التوبة عند مالك وأبي حنيفة، خلافًا للشافعي، والنوع الآخر من اليمين المنعقدة المؤاخذ عليها؛ الحلفُ على فعل متعلق بالمستقبل، أنّ الحالفَ سيفعله، ثمّ لا يفعلُه، وهذه تجب فيها الكفارةُ؛ لقول الله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)( ). وقوله: (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي لمن وقع في المؤاخذة عن اليمين المنعقدة إذا كفَّر عنها وتاب، وذكر الحلم مع المغفرة؛ لأنّ المؤاخذةَ باليمينِ تكونُ عن تقصيرٍ يستوجبُ العقوبةَ، فشملتهمُ المغفرة مع تقصيرهم، لحلم الله عليهم.