المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 160- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم 
المنتخب من صحيح التفسير 

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني. 
- الحلقة (160).
 

 
(لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران:28-29].

(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لا يتخذ: لا يجعلْ  ويصيّر، المؤمنون الكافرين أولياء لهم، فالآية نهيٌ عن موالاةِ الكافرين، والموالاة: من الوَلْيِ، معناه: من يَلِيكَ في القرب منك، وهو نهيٌ عن التحالفِ والتناصرِ بأعراف مرجعيتها غير الإسلام، إمّا بأعرافٍ وعاداتٍ جاهلية، وإمّا بالرهبة في  القلوب من الأعداءِ إذا رأَوا شوكتَهم وبأسَهم، أُمِروا بأن يتركوا ذلك، ويُراعُوا ما هم عليه مما يقتضيه الإسلام، مِن حبّ الله وأوليائه، وبغض أعداءِ الله والشيطانِ وحزبهِ، وقد جاء النهي في هذه الآية مقيدًا بقوله: (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، وكذلكَ في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)(). أي: لا توالوا الكافرين موالاة مصحوبة بترك موالاة المؤمنين، فالمنهيّ عنه على اعتبار هذا القيدِ هو ولاية وميلٌ إلى الكافر، مصحوبٌ بتخلٍّ وإعراضٍ عن المسلمين، فلا تكون ولاية الكافر منهيًّا عنها على هذا إلّا إذا كانت تنافي ولاية المؤمنين، ومَن ذهبَ إلى هذا مِن أهل العلم قال: لأنّ الأصلَ في القيود أن تكون للاحتراز، وقد تأكد هذا الاحتراز بقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) فإنه يدلّ على أن المستحق للذمِّ هو مَن ليس له ولاية للمؤمنين، وقد ورد النهي عن الموالاة في آيات أخرى مقيدًا بهذا القيد، وورد مطلقًا دون قيد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)()، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ)()، فمِن أهل العلم مَن قال: يحمل المطلق مِن الآياتِ على المقيد، فتكون الموالاة الممنوعة هي ما كانت مقترنةً بتخلٍّ وإعراضٍ عن المؤمنين، ومنهم من ذهب إلى أن هذا القيد ليس شرطًا في النهي، فموالاةُ الكافرينَ منهي عنها، صحبَها إعراضٌ عن المؤمنين أم لمْ يصحبها، قالوا: والقيدُ لا يرِدُ دائمًا للاحتراز، بل يرِدُ لأغراض أخرى غير الاحتراز، إذا وُجد أحدُها حُمل عليه، وأهملتْ مراعاة الاحتراز، والقيد هنا  لم يذكر للاحتراز، وإنما ذكر لتوبيخ من يوالون الكافرين ويعرضون عن المؤمنين، وتنبيههم إلى أن الأحقّ بالمولاة هم المؤمنون، لا كما هم يفعلون، وإطلاق النهي عن الموالاة بعدم اعتبار القيد هو الأقرب في آيات النهي عن الموالاة، وبخاصة في هذه الأوقات، التي  ارتهنت فيها إرادة حكام المسلمين عند أعدائهم، مما يسمونه المجتمع الدولي، وتحكموا في سياساتِ بلدان المسلمين صغيرها وكبيرها، ليحفظوا لهم مقابل  ذلك عروشهم وأنظمتهم المعطلةَ للجهادِ، والبعيدة عن أحكام الإسلام.
وموالاة المسلمين للكفار خلاصة أحكامها أنها على ثلاث مراتب الأولى: موالاةٌ متفقٌ على أنها توجبُ الكفر، وهي موالاتهم محبةً في دينهم، ورضًى بكفرهم؛ لأن محبة الكفر كفرٌ، والثانية: موالاةٌ متفقٌ على أنه لا حرجَ فيها، وهي المعاشرة الحسنة لغير المحارب منهم، كلِينِ الجانبِ وأداء الحقوق، وتبادلِ العلاقات والمنافع المالية والاقتصادية والتجارية، كالبيع والشراء، والصحبة في الدنيا بالمعروف، ونحو ذلك، ومن هذه الصحبة بالمعروف قول مالك رحمه الله: تجوز تعزيةُ الكافر بمن يموتُ له، ويدلُّ لذلك قول الله تعالى فيمن كان أبواه كافرين: (فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)()، وقوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)() وقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء، وقد سألت إن تصِلَ أمَّها وهي مشركة: (نعم، صِلي أمك)()، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي، لما يبديهِ مِن محبة النبي صلى الله عليه وسلم والتردد عليه، وكل ذلك مشروطٌ بعدمِ الميلِ والمحبة لدينهم، وأخلاقهم السيئة في ارتكاب المحرمات والمعاصي، والنوع الثالث: موالاةٌ محرمةٌ يجب تجنبها، ولا تصل بصاحبها إلى الكفر، وهي الميل إليهم وطلب النصرة منهم، والتعلق بهم بما لا نفع فيه للمسلمين؛ حرصًا على مصالح شخصية، مع اعتقادِ بطلانِ دينهم، وكره الكفرِ فيهم، وكانت الموالاة بهذا المعنى محظورة؛ لما فيها مِن الركون الذي قد يجرّ إلى استحسانِ دينهم، والرضَى به، ولا تعدُّ الموالاةُ على هذا النحو كفرًا؛ لأنّ الإنسانَ قد يُحَبّ من جانب، ويُكره من جانب، يحبُّ فيه مثلا المعروفُ والإحسانُ، وطلاقةُ الوجه، وبرّ والديه، ويُكره فيه التخلف عن الصلاة، أو شرب الدخان أو الخمر، ونحو ذلك، فلا تلازم بين الميل إلى الكفار لأجل عمل نافع  يقدمونه، وبين محبتهم لأجل دينهم، المستوجبة للكفر (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) الإشارة إلى اتخاذهم أولياء، أي: ومَن يفعل ذلك ويتخذهم أولياء ولايةً محرمةً (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) فليست ولايته لغير المسلمين مِن ولاية الله في شيء؛ لأنّ ولايةَ الله وولايةَ أعدائهِ لا يلتقيان (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) إلّا أن تخافوا منهم عدوانًا عليكم، فتدارونهم لدفع عدوانهم، ففعلُ (تتَّقُوا) ضمِّنَ معنى تخافوا، لذا عُدي بمِن، كما عُديَ خَافَ؛ قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا)()()، (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي: يحذركم الله مِن نفسِهِ() أن توالوا أعداءه بما يضر بالمؤمنين، وذكرُ النفس في التحذير يفيد التغليظ الشديد في التحذير من الموالاة، كما يفيد عموم التحذير في كل الأحوال، بخلاف ما لو علّق التحذير بصفة كغضب الله وانتقامه، مثل: يحذركم الله غضبه، فقد يتوهم منه أنه قد يعفو ولا ينتقم.
(قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) أي يستوي عند الله تعالى السرُّ والعلن، يستوي ما أضمرتموه في نفوسكم من موالاة لا تظهرونها خشية الناس، مع ما أبديتموه من خلاف ذلك (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ومُطّلع أيضًا على كل ما يقع في ملكه من السموات والأرض، لا تخفى عليه خافية (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو مع علمه الواسع بكلّ شيء لا يعجزه شيء، فقدرته محيطةٌ بالأشياء كلها، إحاطة كاملةً، فلا أحد يفلتُ من عقابه، وقد حذركم نفسَه، فلا تتجرؤُوا على معاصيهِ.

التبويبات الأساسية