المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 157- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم 
المنتخب من صحيح التفسير 
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (157).

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[آل عمران:19-21].
 
(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) التعرضُ في هذه الآياتِ لاختلافِ أهلِ الكتابِ من اليهود والنصارى في دينهِم، بعد أن جاءهم العلمُ بالإسلامِ، وبينته لهم كتبهم، وهو اختلافُ بغيٍ وعدوانٍ، وذُكر تحذيرًا مِن أن يفعلَ المسلمون فعلَهم.
وقد تنوعَ اختلافُهم وأخذَ وجوهًا كثيرةً، جاءَ في الحديث: (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً...)()، واختلفوا فيما بينهم؛ فقالت اليهود: ليستِ النصارى على شيءٍ، وقالت النصارى: ليستِ اليهود على شيءٍ، واختلفوا كذلكَ مع الإسلام، فمنهم مَن آمنَ ومنهم مَن كفر، كما اختلفوا معه في التوحيد، فقالت اليهود: عزير ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابن الله، وثالث ثلاثة، فالاختلاف منهم متنوعٌ ومتجددٌ، ولذلك حذف معمول (اختلفوا)؛ ليعمَّ كلّ اختلاف.
ولم يكنِ اختلافُهم في التوحيدِ وكفرُهم بالإسلامِ عن جهلٍ وعدمِ معرفة، بل جاءهم العلمُ بالإسلام ونبيه في كتبهم، وأيقنوا مِن صحةِ ما جاءهم به  بالحججِ والبراهينِ الواضحةِ، فكانوا يعرفونَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وصِدقه كما يعرفون أبناءَهم، ولكنهم استكبَرُوا وجحَدُوا، كما قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)() فما كان جحودُهم واختلافُهم إلّا (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) عداوةً للإسلامِ، وتحاسدًا فيما بينهم للتنافسِ على الزعامة والترأس، الذي افتقدوهُ بمجيءِ الإسلامِ()، والاختلاف الذي كان بينهم وذمّهم الله به هو اختلافٌ في الأصول، يختلفُ عن اختلاف الاجتهاد في فروعِ الشريعةِ لاستنباطِ الأحكام، فذاكَ اختلافٌ محمودٌ، صاحبهُ مأجورٌ إن كانَ مِن أهلهِ، ممنْ يملكُ أدواتِه (وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ) القرآنية، ويجحد الحجج الكونية الدالة على توحيده (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) وسرعةُ الحسابِ تقتضي سرعةَ العقاب للكفرة والعصاة؛ لأنّ الحسابَ ليس بعده إلا الجزاءُ والعقاب (فَإِنْ حَاجُّوكَ) تقدم الكلام على المحاجة في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)() ومعناها المخاصمة، ويكثرُ استعمالها في المخاصمة بالباطل، وفاعل المحاجة في قوله: (حاجوّك) غير مذكور، لكنه معلومٌ مِن سياق السورة، ومِن سبب نزولها، فهي في نصارى نجران، فهمُ المعنيون بالمحاجّة، والمعنى: فإن خاصمَك هؤلاء وجادلوك في الحقّ الذي أنت عليه لجاجًا وعنادًا، بعدما أقمت عليه الحجة، وبينتَه لهم (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ) هذا ليس جواب (فَإِنْ حَاجُّوكَ)، بل الجواب مقدر، دلَّ عليه الكلام المذكور، أي: فإن حاجُّوك و تمادَوا في لجاجهم ويئستَ منهم، فردَّ عليهم بقولك: أَسْلَمتُ وَجهِيَ لِلهِ، أي: أخلصتُ نفسيَ للهِ، واستسلمت له بكلِّيتِي ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعلانيةً، أنا ومَن اتبعني من المؤمنين، فهم كذلك أخلصُوا واستسلمُوا لدين الله، والتعبيرُ عن الاستسلام بالوجه (وجهيَ) مِن التعبير بالجزء عن الكلِّ، وهو الذاتُ، وخصّ الوجه دون غيره من البدنِ؛ لأنه أشرفُ الأعضاء، وإخلاصُ النفس لله معناه: جعلها ملكًا له، وجعل عملها كله في مرضاته، وهذا يعني الإعراضَ عن مجادلتهم، والمتاركة لهم بعد اليأس منهم، وقد قيل: إنّ المحق إذا ابتلي بالمبطلِ اللجوجِ يقول: أمّا أنا فمنقاد إلى الحق، وأما أنت فشأنك، يحذره من مغبة لجاجِهِ.
(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) من اليهود والنصارى (وَ) قل للـ(الأُمِّيِّينَ) من مشركي العرب، الذين لم يعرفوا الكتاب: (أَأَسْلَمْتُمْ) ألا تُسلِموا، أو هلا أسلمتُم، سارعُوا إلى الإسلامِ، ماذا تنتظرونَ؟! فالاستفهام للتحضيض، وطلب المسارعة إلى الإسلام استبطاءً لإسلامِهم، وجيء فيه بالفعل الماضي (أَأَسْلَمْتُمْ) رجاءَ إسلامهم، وحرصًا عليهم، فكأنهم أسلموا بالفعل (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوْا) فإن انقادُوا فقد حلّت بهم الهداية، ووضحت لهم طريقُ الفلاح، ووُفقوا إليها وسلكُوها (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) وإن أعرضوا وتمادوا في غيّهم، ورجعوا على أعقابِهم، فلن يضُرّوك شيئًا، وليس عليك لوم (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)() إنْ عليك إلا البلاغُ، وقد بلّغتَ، فجملة (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) دلّت على جوابِ الشرط المحذوف، وليست هي الجواب، تقديره: فقد بلّغتَ (وَاللهُ بَصِيٌر بِالْعِبَادِ) مطلع عليهم، وسيجازيهم.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ) أي كفروا بآيات الله، وهم اليهود، وجاء التعبير عن كفرهم بالفعلِ المضارعِ الدالِّ على الحال؛ ليفيدَ استمرارَهم على الكفرِ، فهم يجددونَ كفرًا في كلِّ وقتٍ، وأما فعلُ (يَقْتُلُونَ) فالمضارع فيه لاستحضار صورة فعل أسلافِهم الشنيع؛ للتحذير منه، فالكلام في قوله: (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ) عن يهودِ المدينة في زمنِ النبوةِ، فهم قد حصلَ منهم الكفر بآيات الله، وهو كفرُهم بالقرآن، وما لم يحصلْ منهم، وهو قتل الأنبياء، حصلَ من آبائهم وأوائِلهم، وأُخِذوا هم به لرضاهُم بفعلِ آبائهم، واتباعِ سلوكهم وعقائدهم (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيئِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)() وقيد (بِغَيْرِ حَقٍّ) لبيان واقع حالهم الظالم، فلا مفهوم له، فلا يُقْتَلُ نبي بحقٍّ بحال (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) ويقتلون الذين يأمرون بالحق والعدلِ، وقد قَتل أسلافهم عددًا من الأنبياء بالفعل، وهمُّوا هم بقتلِ الذين يأمرونَ بالقسط، ولذا أُعيدَ فعل (يقتلونَ) لاختلاف متعلقه، فالقتل الأول للأنبياءِ متعلقٌ بأوائلهم، والقتلُ الثاني للذينَ يأمرونَ بالقسطِ متعلقٌ بهم، فقد همّوا بقتلِ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ كراهيةً للحقِّ وأهله، وممن قَتل أسلافُهم من الأنبياء: زكرياء وابنه يحيى عليهما السلام، وقتَلوا غيرَهم من صالحي بني إسرائيل عدوانًا وظلمًا (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)() البشارة: الإخبار بما يسُرّ، واستعمالها في العذاب من استعمال الشيء في ضدِّه للاستهزاء بهم، كما يقال لمن يلقى في النار: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)()، فهي على الحقيقة تنكيلٌ ونذارةٌ، وليست بشارةً؛ فلا بُشرى لأهلِ النار.

التبويبات الأساسية