المنتخب من التفسير -الحلقة 291 - سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (291)

[سورة المائدة: 46-48]

 

وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ (46)

(وَقَفَّيْنَا) أتبعنا، مِن قَفا يَقفو إذا تَبِع، واشتقاقه من القَفا، وهو الخَلْف، وعدي بعلى لتضمينه معنى جئنا، أي جئنا على أثر الرسل من بني إسرائيل بعيسى بن مريم، فكان عيسى بعد زكرياء عليه السلام، ومفعول قفينَا محذوفٌ، تقديره: وقفيناهم، دلَّ عليه قوله (عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).

(مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) مصدقًا حالٌ مؤكدة لصاحبها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لابدَّ أن يكون كذلك، مؤيدًا وداعيًا إلى ما جاء قبله في التوراة، وإلى العمل به (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ) هو الكتاب الخاصُّ بعيسى عليه السلام (فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) جملة حالية، أي: هاديًا إلى الحق ومبصرًا به (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) آتَيْنَاه الإنجيل حالة كونه هاديًا وَمُصَدِّقًا لِمَا تقدمه مِنَ التَّوْرَاةِ ومؤيدًا لها، ومصدقًا الثانية ليست تكرارًا مع الأولى في قوله (بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا)؛ لأنَّ مصدقًا الأولى حالٌ من عيسى عليه السلام، والثانية حالٌ من الإنجيل، فكلاهما مصدقٌ ومؤيدٌ للتوراة، والإنجيلُ وإن كان مشتملا على كثير مما جاء في التوراة، فإن فيه من الأحكام ما يخالفُها، ويعدُّ ناسخًا لها، كما قال تعالى: (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)([1]) (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً) أي في الإنجيل هدًى وأحكام، وفيه مواعظُ وتذكير، واختلف فيما جاء في الإنجيل من الأحكام على قولين؛ الأول: أنه شرعٌ مستقل، مشتملٌ على الأحكام، ناسخ للتوراة، ويشهد له ما جاء في هذه الآية (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) وقوله على لسان عيسى عليه السلام: (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)([2])، وفي الحديث: (أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا… ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِه…)([3])، والقول الثاني: أن جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بالتوراة، مكلَّفين بها في الأحكام، والإنجيل ليس كتابَ أحكام، ولكنه أمثالٌ ومواعظ، وكل ما يتعلق بالأحكام محالٌ على التوراة، ولذلك اليهودُ لم ينقادوا إلى عيسى عليه السلام.

 

وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ (47)

اللام في (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ) لام الأمر، وهي ساكنة عند أكثر القرّاء، وهو أمرٌ موجه للنصارى قبل مجيئ الإسلام، بأن يحكموا بما جاء في الإنجيل، معطوف على جملة (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ) والمعطوفُ – وهو (وليحكم) – فيه حذفٌ تقديره: آتيناهم الإنجيل، وقلنا لهم: ليحكموا بما أنزل الله فيه، فضمير (فيه) للإنجيل (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) هذا إذا كان يراد به أهل الكتاب، الذين حرفوا كتبهم، فقد اجتمعت فيهم الأوصاف الثلاثة؛ الكفر والظلم والفسق، وإنْ حُمل على المسلمين فالكفرُ محمولٌ على استحلال الحكم بغير ما أنزل الله، ومع عدم الاستحلال فهو ظلمٌ وفسوقٌ دون الكفر، كما سبق في قوله (فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وكل ما ذكره الله في هذه الآيات المتعاقبة عن اليهود، يدخل في التبديل والتحريفِ الذي عُرفوا به، فذكرت الآيات أولًا كتمهم لحكم الزاني المحصن في التوراة، وإلى ذلك الإشارة في قوله: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).

 ثم ذكرتْ أنَّ الله كتبَ عليهم القصاص والمماثلة في العقوبة، وكانت عادتُهم التكايلَ في الدماء، على طريقةِ أهل الجاهلية، عقوبة الشريف تزيدُ عن عقوبة من هو دونه، وأخيرًا أخبرَ القرآن أنّ من تبديلهم تكذيبهم لِما جاءهم به عيسى عليه السلام بالكلية، وإعلانهم العداء له، وإليه الإشارة في قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ (48)

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) المخاطبُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن، فأل فيه للعهد، أي أنزلنا القرآنَ مصدقًا ومؤيدًا لجميع ما تقدمه من الكتب، فأل في الكتاب للجنس، فالقرآن مؤيدٌ لما جاء فيها من أصول الإيمان والتوحيد، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)([4])، وأما التفصيلات والأحكام الفرعية، فلكلِّ رسول ما يناسب أمته من الأحكام، وما وافقَ منها القرآنَ أو ذكرَه وسكتَ عنه فهو شرعٌ لنا، ما لم يردْ ناسخٌ، وما خالفَ القرآنَ فالقولُ في شريعتنا قولُ القرآن؛ لأنَّ القرآن مهيمنٌ عليها، والمهيمنُ من هَيْمَن، كسَيْطَر وزنًا ومعنًى، وضمير عليه راجعٌ إلى الكتَاب، المراد منه الجنس، فهو المسيطرُ والرقيب والحكم على ما جاء في الكتب التي قبله، فما خالف منها القرآن يكون القرآنُ ناسخًا له (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) مِن القرآن، هذا يدلُّ على أنّ غير المسلمين إذا ترافعوا إلى الحاكم المسلم، فالواجبُ أن يحكم بينهم بأحكام المسلمين (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) لا تحكم بينهم بما يوافقُ عاداتِهم، وما تهواهُ نفوسُهم، ومعلومٌ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يحكم بينهم إلا بالحقِّ إذا جاءُوه، ولا يحكمُ بينهم بما يوافقُ أهواءَهم، فنهيهُ عن ذلك ليسَ لاحتمال أنه يميلُ إلى أهوائِهم، وإنما لإعلام اليهودِ بنهي الله تعالى نبيَّه عن ذلك؛ ليقطع أطماعهم في الإلحاح عليه، ويكفوا عن أذاهُ بطلبِ موافقتهم، والخطابُ في قوله (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) للناسِ جميعًا، والشرعَة والشّريعة: الدِّين، وأصلها الطريقُ الموصلُ إلى الماء، سمّي بها الدّين لأنَّ الله يحيي به القلوب، كما تحيَى الأبدانُ بالماء، والمنهاج أصله الطريق الواسعُ الواضحُ، ومعناه الأدلةُ الواضحةُ، التي تقودُ إلى فهم الشريعة والعملِ بها (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أصل الأمة الجماعة العظيمة، التي يجمعها أمرٌ واحد، كالدِّين أو اللغة والجنس ونحو ذلك، أي: ولو أراد الله لكان قدَره أن تكونوا أيها الناس جميعًا أمةً واحدةً، على دينٍ واحدٍ، مطيعينَ، لا تخرجونَ عنه، ولأجبَرَكم عليه، فلا تختلفونَ، ولكن هذا خلاف الحكمةِ التي أرادَها الله مِن الابتلاءِ والتمحيص (وَلَكِنْ) جعلكم كذلك مختلفين، لكلِّ أمةٍ شريعةٌ ومنهاج، وجعل فيكم المطيعَ والعاصي، والمسلمَ والكافرَ، جعلكم كذلك؛ ليظهرَ بالبلوَى والاختبار ما خفيَ منكم، فيَظهرُ لكم أهل الإيمان الذين قبِلوا الشرائع، وأهل الضلالِ الذين صدُّوا عن سبل الله (فِي مَا آتَاكُمْ) وليُعلم فيكم أولو العلم والفضل، ومن سخروا مواهبهم وعقولهم فيما آتَاهم الله، وأرشدهم إليه من الدلالات الموصلة إلى الدين الحق والفهم الصحيح، فتعلَموهم، وتعلَموا الصادق من الكاذب، والعاصيَ من المطيع؛ لتنتفعوا بهدي المهتدين، وتتنكبوا سبيل الظالمين، فقوله (لِيَبْلُوَكُمْ) من البلوى وهي الاختبار والامتحان (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) ابتدروا واغتنموا الأعمال الصالحة والطاعات، وتنافسُوا فيها (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) هذه الجملةُ مفرعةٌ عما قبلها، جرتْ مجرَى التعليلِ للأمرِ بالمنافسةِ في الخيرات؛ لأن هناكَ يومًا يرجعُ الناسُ فيه جميعًا إلى الله، تظهرُ فيه الحقائقُ، وتكشفُ السرائر، يومٌ للجزاء، يواجَه كلُّ أحدٍ بعمله، فيجده حاضرًا، فيقفُ الناسُ على ما كان بينهم من اختلافٍ، ويعلمونَ المحقَّ من المُبطل: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)([5]).

 

[1]) آل عمران: 50.

[2]) آل عمران: 50.

[3]) البخاري: 557.

[4]) الشورى: 13.

[5]) آل عمران: 30.

التبويبات الأساسية