بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (219)
(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ) [النساء:8-11].
(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) في هذه الآية بيانٌ لحال القرابة من الفقراء واليتامى غير الوارثين، الذين تتعلق نفوسهم عادةً عند سماعِهم بقسمة مالِ الميت بين الورثة، ومعنى حضورهم: سماعُهم ومعرفتُهم بذلك، لا خصوص حضور مجلس قسمة المال.
أوصى القرآنُ الورثةَ بأمرين؛ بالإحسانِ إليهم، وأن يقولوا لهم قولًا معروفًا، فالقولُ المعروفُ مطلوبٌ لذاتهِ، مع الإحسانِ وعدمه، فلا يحلّ انتهارهم والإساءة إليهم، أُعطوا أو مُنعوا، والقولُ المعروفُ هو القولُ الهيّنُ اللَّينُ، الذي يرتاح إليه السامع، ويُدخلُ عليه السرور، وقولُ المعروف مطلوب من الجانبين من الورثة، فلا يؤذِ الورثةُ مَن لا يرثونَ من القرابة بالحرمانِ والطردِ، أو الكلام الخشنِ الموجِع، ولا يؤذوهم أيضًا بالمنِّ عليهم إنْ أعطوهم، ومطلوبٌ كذلك ممن أُعطِيَ مِن القرابة شيئًا ألَّا يستقِلُّوهُ ويحتقِرُوه، بل يحمدونَ الله عليه، ويدعونَ لمن أعطاهم بالأجْرِ والخَلَف، وألَّا يغتابُوهم إذا منعوا.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ) تصويرٌ يقدّمُه القرآنُ للورثةِ حين يقسمون مالَ مورثِهم، فيه عبرةٌ تحملُهم على أنْ يتخلَّصُوا مِن شحِّ أنفسِهم، بألّا ينسَوا أن يحسنوا إلى قرابتهِم، وإلى اليتامى والفقراء منهم، ويذكِّرهم في ذلك بضعفِ اليتامَى وحاجتِهم، وأنهم بنسيانِهم معرَّضونَ للضَّياع، ويقول لهم: ماذا لو كُنتُم أنتم آباءَ هؤلاء القرابة، وخلفتم وراءَكم ذريةً ضعافًا بلا عائلٍ، ألَا تحبّون أن يحسنَ إليهم قرابتُهم، وتخافونَ عليهم الضياعَ إذا لم يلتفتْ إليهم أحدٌ؟ فضعوا أنفسكَم مكانَ آباء مَن حضركم مِن القرابة الضعافِ، وأنتم تقسمونَ الميراثَ، فإنكم إنْ فعلتم ذلك رقّتْ قلوبكم، وعطفتْ على الضعفاء (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) فعليكم بالتقوى، والقولِ السديدِ الحسن، حتى يكون خوفُكُم على الضعاف والصغارِ مِن قرابتكم، كخوفِكم على أولادِكم لو كانوا مكانَهم، وقدم الأمر بالخشية على الأمر بالتقوى؛ لأنّ الخشيةَ بدايةُ التقوى، ومؤديةٌ إليها، والمقدمات تسبق الغايات.
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) أي الذين يأكلون أموال اليتامى، يأكلونها حالَ كونهم ظالمينَ، لا على وجه الحق، وقوله (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) معناه أن ما يأكلونه في حقيقة الأمر هو النار، وليس غير النار، وهذا ما أفاده الحصر بإنّما، وأفادت الظرفية في قوله (فِي بُطُونِهِم) أن بطونهم تكون بتمامِهما ظرفًا للنار، مملوءةً بها، كما يملأُ الفرنُ بالنار.
ولا يرِدُ عليه أنّ الظرفَ إذا جُرّ بـ(في) يكونُ المجرور بعضَ الظرف، كما تقول: سرتُ في يوم الجمعة، إذا سرتَ في بِعضه، بخلافِ المنصوب على الظرفيةِ المقدر فيه الجار، كما تقول: سرتُ يوم الجمعة، إذا سرتَه بتمامه، هذا لا يرد هنا؛ لأن هذا التفريق الذي ذكره الأصوليون وبعض النحاة، هو في الظرف الذي يجوز فيه الأمرانِ؛ جرهُ، ونصبُه على الظرفية، وهنا لا يجوز نصبه، فلا يقال: أكلَ بطنَه، فالإيرادُ لا يرِدُ، أو يكونُ المعنى على المجاز: يأكلونَ في بطونهم ما يجرُّهم إلى النار، ويُدخِلهم فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا) فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (أَلَمْ تَرَ اللهَ يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾)([1]).
(وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) الصليُ: العرضُ على لهيب النار، واستُعملَ في لازم معناه، وهو الاحتراقُ بها، فيقال: صَلَيتُه بالنار إذا أدخلته فيها، وشويته بها، والسين للتنفيسِ، تمحّضُ المضارعَ للاستقبال، وتفيدُ تأكيدَ ما تدخل عليه من وعدٍ أو وعيد، والسَّعير فَعيلٌ بمعنى مفعول؛ النار المسعرة، أي: سيُلقَون في نارٍ ملتهبة تشويهم.
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ) استئنافٌ بيانيٌّ، وتفصيلٌ لِما تقدم في قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)، فكأنّ سائلًا يقولُ: ما هذا النصيب الذي فرضه الله في مال الأقربين؟ فقيل: يوصيكم اللهُ فيه للذكر مثل حظِّ الأنثيين.
والوصية: الأمر والعهدُ بما هو نافعٌ ومُهم، ولذا سمي ما يفعله الإنسان بنفسه ومالِه بعد موتهِ وصيةً، وتطلق في الشرع على ما ينفذُ بعد الموت (فِي أَوْلَادِكُمْ) في شأن أولادكم، فالظرفية مجازية، والأولاد: جمع وَلَد، على وزن أَسَد، يطلق على الذكر والأنثى، ولذلك فصله بنوعيه (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ) والحظ: النصيب، يصيبُ الذكرُ ضعفَ نصيبِ الأنثى، فلها نصفُ نصيبه، له سهمانِ، ولها سهمٌ، وهذا أغلبيٌّ، وإلا فقد يتساوونَ، كما في الإخوةِ من الأم، وقد تأخذ الأنثى أكثرَ من الذكر أو تحرمه، كما لو كان الميت امرأةً تركت زوجًا وأمَّا وأخوات لأم وأخًا شقيقًا، فللأخوات للأم الثلث، ولا شيء للأخ الشقيق، وسبب نزول هذه الآية؛ أن أهلَ الجاهلية كانوا لا يورثون الإناث، فقد جاء عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ امْرَأَةَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْدٌ، وَإِنَّمَا تُنْكَحُ النِّسَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ، فَلَمْ يُجِبْهَا فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْنَتَا سَعْدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ادْعُ لِي أَخَاهُ) فَجَاءَ، فَقَالَ: (ادْفَعْ إِلَى ابْنَتَيْهِ الثُّلُثَيْنِ وَإِلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنَ وَلَكَ مَا بَقِيَ)([2]).
ونزلتْ آيةُ الميراث، فبيّنتِ الوارثين مِن أصحاب الفروض، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ ما بقيَ بعد أداءِ الفروضِ فهو للعصبةِ؛ بقولهِ: (ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)([3]).
[1]) ابن حبان:5566.
[2]) الدارقطني:4096.
[3]) البخاري:6351.