المنتخب من التفسير -الحلقة 243- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (243)

[سورة النساء:66-70]

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء:66].

هذه الآية يربطها بما قبلها لزوم الطاعة لأمر الله، وأمر رسوله، والرضى بحكمه، وهي توطئة وتمهيد للطاعة فيما هو أشق على النفس، وهو ما يأتي من الأمر بالجهاد في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)([1])، فكما أنّ مِن متطلباتِ الإيمانِ الرضَى بحكمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والانقياد له في الأحكامِ، فتجبُ طاعتُه كذلكَ فيما هو أشقُّ، وهو الجهادُ والهجرةُ لإقامة الدينِ ونصرة أهله.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم)([2]) المعنى: لو كتبنا عليهم ما مضمونُه ومعناه: اقتُلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوا ذلك، أو المعنى: لو طلبنَا منهم قتلَ أنفسهمْ وإخراجهم ما فعلوه، وقتل أنفسِهم هو قتلُها في الجهاد، إمّا قتلها بالفعل، أو تعريضُها للقتل بالخروج إليه، والمرادُ بالخروج من الديار: تركُها والانتقال عنها هجرةً لنُصرة الدين، أي: لَو طُلبَ من المنافقين أن يخرجوا للجهاد، أو يخرجوا مهاجرينَ تاركينَ الأوطانَ والديار؛ نصرةً للدين، ما فعلوا ذلك (مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ)([3]) أي: لو طُلب منهم قتلُ أنفسهم، ما استجاب لذلكَ الأمرِ إلّا ناسٌ قليلٌ منهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ)([4]) أي: لو اتبَعوا الرسول وأطاعوهُ فيما يحكم به بينهم، ويأمرُهم به من الجهاد، وتجاوَبوا مع ما يرعاهم ويتفقدُهم به من النصح،  لكان خيرًا لهم، ولَفازُوا بخيرَي الدنيا والآخرة، ولصارُوا أشدَّ ثباتًا على الحق والدين، وما وجدَ النفاقُ إليهم طريقًا.

(وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)([5]) [النساء:67-68].

جملة (وَإذَنْ) يصح أن تكون معطوفة على ما قبلها، ويكون المعنى: لو فعَلوا مَا أُمروا به لكان خيرًا لهم، ولآتيناهم أجرًا عظيمًا، ويصحُّ أن تكون مستأنفةً، وكأنَّه قيل: وماذا يكونُ لهم بعد حصول الخير والتثبيت، وفعل ما يوعظونَ به؟ جوابه (إِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) ولكنهم عصَوا الرسول، واختارُوا النفاق، ولم يرضوا بحكمِه، فحُرِموا ذلك كلَّه.

(وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)[النساء:69].

جملة (وَمَن يُطِعِ) مؤكدةٌ لمضمون ما قبلها، في وجوبِ الرضَا بحكم رسول الله وطاعة أمره، بزيادة تفصيلٍ لثواب الطاعة، وأنها منازلُ ودرجات، وجملة (فَأُولَئِكَ) جواب مَن في قوله (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) وجاءتِ الإشارة إليهم بالبعيد (أُولَئِكَ) لتفخيمِ شأنهم، ورفعةِ أمرهم، وعلوِّ قدرِهم، ومنازلُ مَن ذُكروا هي على ترتيبِ ذكرهم، فجَمعتْهم مَعيةُ المنزلة، مع تفاوتِ الدرجات، أعلاهُم الأنبياء ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ ثمّ الصِّدِّيقون، والصِّدِّيق([6]) هو مَن أسرع إلى التصديق، وسبقَ إليه، ولزمَه ذلك في كلِّ الأحوال، كما هو حال الصدِّيق أبي بكر رضي الله عنه صبيحةَ المعراج، عندما ألقتْ عليه قريش خبرَ الإسراء، وهو خبرٌ خارقٌ، كانوا ينتظرونَ أنه سيفكِّر في الجواب ويتردَّدُ، فأجابهم على الفور: لئن كان قاله فقد صَدق([7])، وكالحواريين مع عيسى عليه السلام، فإنه عندما قال لهم: مَن أنصارِي إلى الله؟ قالوا: نحنُ أنصارُ الله، ثم الشهداء، والشهيد: مَن بذلَ نفسَه لإعلاءِ كلمةِ الله ودينه، فإنه لما بذلَ حياته لربه، وهي أعزُّ ما يملك، كافأهُ الله بأعزِّ ما يتمناه الناس: الجنة، ثم الصالحون، وهم أولياءُ الله الذين عرّفهم القرآن بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)([8])، فالصلاحُ هو الاستقامة، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)([9]) (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)([10]) حَسُن: فعلُ مدح كنِعم، والرفيقُ: هم النبيونَ ومن معهم، أي: حَسُن للمطيعين أن يكونُوا رفيقًا للنبيين والصديقين، أو الكلامُ على التعجبِ، أي: أَحسِنْ بتلكَ الرفقةِ مِن رِفقة.

(ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ([11]) وَكَفَىٰ بِاللهِ عَلِيمًا) [النساء:70].

 (ذَٰلِكَ الْفَضْلُ) الإشارةُ بذَلكَ إلى مَن أنعمَ اللهُ عليهم بالطاعةِ، وحازُوا المنزلة والرفقة، أي: ذلك الفضل العظيم لهم (وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا) كفى به عالمًا علمًا كاملًا بحالِ عباده، ما ظهرَ وما خَفي، فيُعطِي كلَّ أحد على ما علمَهُ مِن صدقِ طاعتِهِ.

 

[1]) النساء:71.

[2]) لو شرطية، حرف امتناع لامتناع، وأنْ في (أَنِ اقْتُلُوا) يصح أن تكون تفسيرية؛ لأنّ كتبنا في معنى القولِ، وأن تكونَ مصدرية.

[3]) جملة (مَا فَعَلوهُ) جوابُ لو، وضمير الهاء في فعلوهُ راجعٌ إلى ما كتب عليهم مِن قتل أنفسهم، والخروجِ من الديار، ويصحُّ إرجاع الضمير على القتلِ والخروج كليهما؛ لأنّ المتعددَ المعطوفَ بـ(أو) يعودُ الضمير عليه مفردًا لأحدِ الأمرينِ أو الأمُور، على سبيل البدل.

[4]) لو أداةُ شرط، واللام في (لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) واقعةٌ في جوابها.

[5]) (إذَنْ) لا تكون في كلامٍ مبتدأ، بل في جوابٍ على كلامٍ متقدمٍ، ملفوظٍ أو مقدرٍ، وهنا يصحّ أن تكون جملة (وَإِذًا ءَلَّاتَيْنَاهُم) معطوفة على جواب (لو)، وهو قوله (لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) ويصح أن تكون (إذًا) مقحمةً لتأكيد الجزاء، وهو الأجر العظيم، والواو في (وَإِذَنْ) تكون للاستئناف، وتكون الجملة مستأنفة جوابًا لسؤالٍ مقدر.

[6]) الصِّدِّيق مبالغةٌ من اسم الفاعل الصَّادق.

[7]) عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ ممَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» [المستدرك للحاكم: 4407].

[8]) يونس:63.

[9]) هود:112.

[10]) أُولَئِكَ فاعلُ حَسُنَ، والإشارة فيه تعودُ على (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ)، و(رَفِيقًا) تمييز على وزن فَعِيل، يستوي فيه الواحد والجمع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى، فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى)([10])، أي الملائكة.

[11]) (ذَٰلِكَ الْفَضْلُ) مبتدأٌ وخبر، و(مِنَ اللهِ) في موضع الحال.

التبويبات الأساسية