بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (124).
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:233].
جملة (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ) صورتها صورة الإخبار، كأنّ الله يخبرنا بذلك، لكن معناها الطلبُ والأمرُ، فهي جملةٌ خبريةٌ لفظًا طلبيةٌ معنًى، والطلب إذا أتَى بصيغةِ الخبر - كما في هذهِ الآيةِ – زادَ الطلبَ تأكيدًا، وصَوَّره كأنه امتُثل بالفعلِ وصار خبرًا واقعًا، والطلب الموجهُ إلى الأمهات بالإرضاع في الآيةِ هو على وجهِ الندبِ والإرشادِ، إلّا إذا تعين الإرضاعُ على الأمِّ فيكون للوجوبِ، وذلك كأنْ لم توجد مرضعٌ غيرها، أو لم يقبلِ الولد غير أمّه، أو تعذرَتِ المرضِعُ لعدمِ قدرة الأبِ على أجرتِها، ففي هذه الأحوالِ يجبُ الإرضاع على الأمّ، ولا يجوزُ لها الامتناع لغير عذر؛ لأنّ في امتناعِها إضرارًا بالولدِ، ولا يعفيها من الوجوبِ إمكانية الإرضاعِ الصناعيّ؛ لأنّ الإرضاعَ الصناعيّ لا يقومُ مقام الإرضاعِ مِن الثديِ، لا مِن حيثُ توفر عناصر الغذاءِ، التي يحتاج إليها المولودُ لبناء عقله وجسمِه السليمِ، واكتسابه المناعةَ المطلوبةَ، ولا مِن حيث التعقيم والسلامةُ من التلوثِ والعفونةِ، التي لا تتوفرُ في الإرضاع الصناعيّ توفرها في الإرضاع الطبيعيّ، مِن ثديِ الأمّ، وذلك يجعل الولدَ معرَّضًا للنزلاتِ المرضيةِ الحادةِ أحيانًا.
و(أل) في الوالداتِ للجنسِ، المستغرق لكلّ الوالداتِ، ويدخلُ فيهنّ دخولًا أوليًّا المطلقاتُ، فهنّ المعنياتُ بالخطابِ قبلَ غيرهنّ، وذلك لما يأتي:
- لذكرهنّ قبل هذه الآية، وارتباطهنّ بالسياق.
- ولإيجابِ الرزق والكسوة لهنّ، فإنّه لا يجب رزق وكسوة لمَن كانت في العصمةِ بالإرضاع، وإنمَا رزقهنّ وكسوتهنّ للزوجية.
- ولأن نزاعَ الآباءِ الأمهات في الرضاعِ لا يكون في الغالب إلّا مع المطلقات، فهنّ مَن يحتجن إلى التذكير والإرشاد إلى إرضاعِ أولادِهنّ؛ لأنّ الذي يحمل على النزاعِ مع الأبِ في الرضاعِ هو الطلاقُ، لا استقرار الزوجية، وذلك لعدةِ أسباب:
• منها أن الرضاع يعيقُ المطلقة إذا أرادت الزواجَ، فيرغب عنها الخُطابُ لانشغالِها بولدِها عن زوجِها، وهذا يجعلُها تشعرُ بأنها التي تدفع الثمنَ في التزامها بالإرضاعِ.
• ومنها أن الخلاف بعد الطلاق قدْ يستخدم فيه الإضرارُ بالمولود وسيلة مِن وسائل الكيد، للوصول إلى غرضٍ مِن أغراض النفسِ، وهي كثيرةٌ.
وفي التصريح بأنهن يرضعن أولادهنّ، مع العلم بأن من يرضعنه هم أولادهنّ، تذكيرٌ لهن بالولادة، التي تحرك في قلوبهنّ الشفقةَ والعطف على المولود، فلا تلتفتُ لجفوةِ الأبِ في معاملتها، حتّى لو منَعَها حقّها أو حقّ ولدِها.
(حَوْلَيْنِ) تثنية حَوْل وهو العام، ووصفهما بالكاملينِ لرفعِ توهّمِ أن يكونَ المراد حولًا وبعضَ حولٍ، فالتأكيد يرفع احتمالَ المجاز.
واللام في (لِمَنْ أَرَادَ) تسمى لام البيانِ، لبيان مَن توجه إليه الحكم، وهمَا الأبُ والأمّ، كاللامِ في قوله تعالى: (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) ([1])، وقوله: (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ)([2]).
وإسنادُ إتمام الحولين إلى إرادتهما في قوله: (لِمَنْ أَرَادَ) دليلٌ على أنه يجوزُ التوافق في مدة الرضاع على ما دونَ الحولين، ودلّت الآية على أنّه لا اعتبار في الرضاع بما زادَ على الحولينِ في التحريمِ؛ لأنّ المحرم مِن الرضاع ما فتقَ الأمعاء، كما جاءَ في الحديثِ، وذلك يكونُ قبلَ الاستغناءِ عن الرضاعِ بالطعامِ، ودلّتِ الآيةُ أيضًا أنّه إذا طلب أحدُ الزوجينِ الزيادةَ على الحولينِ لا يُجابُ إلى ذلكَ.
وأفادتِ الآيةُ أنّه لا يجابُ الأبُ لإرضاعِ غير الأم لو طلبَهُ، حتى لو كانت الأجنبيةُ بغيرِ أجرةٍ، أو بأقلّ من أجرةِ الأم، كما ذهبَ إلى ذلك مالك رحمه الله؛ لأنّ حقّ الأم في الإرضاع حقٌّ أصيلٌ، مقدمةٌ فيه على غيرها، ويجابُ مَن طلبَ مِن الزوجين تكميلَ مدةِ الرضاعِ إلى الحولينِ، إذا أباهُ الآخرُ، سواء كانَا مطلَّقين أو في العصمةِ.
(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) المولود له هو الأب، عليه نفقةُ المرضعِ رزقُها وكسوتُها بالمعروف، وسُمي الأبُ مولودًا له لتذكيرهِ بأن المولودَ هو له، ينسبُ إليه، لتتحرّكَ فيهِ أريحيةُ الاستجابةِ لما يطلبُ منهُ، مِن رزقِ المرضعةِ وكسوتِها؛ لأنها تقوم له بولده هو لا بولد غيره، فهو مطالب لأجل ذلك أن يعاملَها معاملةً حسنةً، ويعطيَها الأجرة طيبة بها نفسُه، وبالمعروف الذي تعارفَ عليهِ النّاس في مثلِ حالِهِ وقدرتِهِ، فالمعروفُ الذي يرضاهُ الناسُ ولا ينكرونَهُ.
(لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) لا يكلّفُ الزوجُ مِن النفقة إلَّا بمَا في وسعِه وقدرتِهِ، لا بما فيه مشقة تزيد على وسعه، فالوسْعُ: الاستطاعةُ والطاقةُ (لَا تُضَارَّ[3] وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) المعنى: لا يضرّ واحدٌ من الزوجينِ بالآخرِ بسبب الولدِ، فلا يجوزُ أنْ يقعَ الضررُ على الأمّ بسببِ ولدِها، فينقص حقّها في الرزق والكسوة، أو ينزع منها ولدها، ولا أن يقع الضررُ على الوالدِ بسببِ ولدِهِ، فيكلّفُ بما لا يقدر عليه مِن النفقةِ، أو أن تتركَ له الأم الولدَ نكايةً فيه ومكرًا به، لعلمها بعجزهِ عن أن يجدَ مَن يرضعُه، جاء في المدونة عن زيد بن أسلمٍ قال: "لَيْسَ لَهَا أَنْ تُلْقِيَ وَلَدَهَا عَلَيْهِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يَرْضِعُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارَّهَا فَيَنْزِعُ مِنْهَا وَلَدَهَا، وَهِيَ تُحِبُّ أَنْ تُرْضِعَهُ"([4])، ونسب الولد إلى كل منهما، مرة إليه ومرة إليها؛ استعطافًا لقلبيهِما، وتنبيهًا على أنّه لا ينبغي أن يصدرَ عنهما خلافُ ما تقتضيهِ الشفقةُ عليه، التي تدفعُهما إلى التوافقِ، ومراعاة مصالح المولود.
(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)[5] أي إذا مات الأب صارت أجرة الرضاعة على ورثةِ الأب، ويبدأ بالصبيّ، فتؤخذُ منه إن كانَ له مالٌ (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (فِصَالًا) فطامًا عن الإرضاع؛ لأنه ينفصل به الرضيع عن ثديِ أمه (وَتَشَاوُرٍ) التشاور والمشاورة والمشُورة كمثُوبة، والمشْوَرَة كالمصلحة معناها: استخراجُ الرأي طلبًا للنصح، وهذا تصريحٌ بما فهم دلالة مما تقدم في قوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) أي: فإن لم يُرد الأبوانِ تكميل الحولين، وأرادا الفطام قبل ذلك، بناء على تشاور وتوافق منهما، فلا حرج عليهما.
(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ)[6] كان الاسترضاعُ واتخاذُ المرضع التي تُسمّى الظئرَ شائعًا عند العربِ، وبالأخصّ ذوي الحسبِ والشرف، والآية دليلٌ على جوازهِ، فإنْ أرادَ الأب والأم أنْ يعطوا الولدَ لامرأةٍ ترضعُهُ واتفقَا على ذلكَ فلا جُناح عليهما؛ قال صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ)([7]).
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (آتَيْتُمْ) آتَى معناها أعطى، وتسليم ما أعطي للمرضع تحصيلُ حاصل، لا يحتاج إلى ذكره، فيحمل آتيتم على أردتم، أي: إذا سلمتم ما أردتم تسليمه، كما في قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا)([8]) أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا.
والمعنى: إذا اتفق الأبوان على تأجير ظِئْرٍ ترضعُ ولدهما، فلا حرج ولا إثم عليهما في اتخاذِ المرضِع، إذا سلّم الآباءُ بالفعلِ الأجرةَ التي أرادوا إعطاءَها للمرضعِ، حالةَ كونِها بالقدرِ المتعارفِ عليه، دونَ بخسٍ ولا غبن، فرفع الحرج خاصّ، ومفرعٌ عن حالةِ اتفاقهما على استئجارِ مرضعٍ، لا عندَ الاختلاف، فإنه لا حقّ لأحدهما أن ينفرد بتنفيذ إرادته في استئجار المرضع.
وتسليم الأجرةِ للمرضع ليس شرطًا في صحةِ الإجارة، لكنه أمرٌ مرغبٌ فيه، وأولَى أن يكونَ، فالإجارة تصحّ بدونه (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذيرٌ مِن المكايدة، التي قد تنشأُ بين الزوجين بسببِ الطلاقِ، بأنّ الله رقيبٌ، يرى ما تصنعونَ.
[1]) يوسف: 23.
[2]) النساء: 25.
[3]) تضارّ مفاعلةٌ مِن ضَارّ، والمفاعلة إن كانت على بابِها من جانبين، فالمفعول محذوفٌ، أي: لا تضار والدةٌ زوجَها، وإن كانت من جانبٍ واحدٍ على غير بابِها، فمعناها المبالغةُ في النهيِ عن وقوعِ أصلِ الضرّ، وليس فقط المشاركةُ فيه من الجانبين.
[4]) المدونة: 2/266.
[5]) الإشارة بقوله (مثل ذَلِكَ) إلى الرزق والكسوة، أو إلى النهي عن المضارة، على ما اختاره مالك رحمه الله، و(ال) في الوارث عوض عن المضاف إليه، أي: وارث المولود، أو وارث الأب، أو وارث ولي الرضيع، فهي ثلاثة أقوال على ما جاء في المدونة.
[6]) الخطاب في (أردتم) للآباء والأمهات، وزيادة السين والتاء في (تسترضعوا) على أصل الفعل رَضَعَ للطلبِ، فالاسترضاع: طلب أن يُرضعَ الصغيرَ غيرُ أمِّه.
[7]) سيرة ابن هشام: 1/166.
[8]) المائدة:5.