المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 148- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم 
المنتخب من صحيح التفسير 
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني. 
- الحلقة (148). 

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)[البقرة:285-286].
 
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) هذهِ شهادةٌ من الله تبارك وتعالى لنبيهِ بالإيمان، وتنصيصٌ على صحة إيمانه بما أنزلَه الله تعالى عليه من الوحي، وكذلك تزكيةٌ للمؤمنين (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي: كلّ واحدٍ منهم، مِن الرسولِ والمؤمنين (آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ) وكذلكَ آمَنَ بمَا يجبُ الإيمانُ به، وتقدمَ الكلامُ على لفظِ الجلالةِ عند الكلامِ على البسملة، وعن الملائكة في أول البقرةِ (وَكُتُبِهِ) جمعٌ مضاف، يعمّ جميعَ كتب الله المنزلة على رسله.
وعلى رأسِ الكتبِ المنزلة القرآنُ، أي: كلّ منهم آمن بالله وبكتب الله ورسله جميعًا (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي: يقولون، أو يقول كلّ واحد منهم: لا نفرق بين الرسل، نؤمنُ بهم كلهم دون تفريق، لا كمَن يقول من اليهود والنصارى: نؤمن ببعضٍ ونكفرُ ببعضٍ. 
(وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) قالوا: أجبْنا وامتثلنا، وهذا مقتضى حال المؤمنين إذا جاءهم خطاب من الله بأمر أو نهي، يقولون: سمعًا وطاعةً، أمر الله وشرعه فوق رؤوسنا، لا نقدّم عليه أمرًا ولا نهيًا، رقابنا له خاضعةٌ، وآذاننا له صاغية، وإن خالف أهواءَنا وما تحبّه نفوسنا (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) نطلبُ ونرجو غفرانَك ربنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي: إليك رجوعنا حين نبعث من القبور، لا إلى غيرك. 
(لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) الوسع مثلث الواو: الاستطاعة والطاقة، فمِن لطف الله بعبادهِ أنه لم يكلفهم ما لا يطيقونَ، كما قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ)() (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)()، وقد قال العلماء: إن قوله (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ناسخٌ لقوله تعالى: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ).
وقد جاء في هذا التخفيف عن الأمة حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ}، قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ - أي شيءٌ من الحزن  مثله - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنا، قَالَ: فَأَلْقَى اللهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ)(). 
وقد تقدمَ وجهُ الجمعِ بين ما وردَ مِن النصوص الدالةِ على المؤاخذةِ بما في النفسِ من الهمّ والخواطر، وعدم المؤاخذةِ عليها، عند قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (لَهَا مَا كَسَبَتْ) أي النفس، لها ما عملت من الخير (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) عليها ما اقترفَتْ مِن الآثام والذنوب، وتقديم المجرور (لَهَا) و(وَعَلَيْهَا) للاختصاص، أي: لا يكون ما عملته من خير إلّا لَها، ولا ما اقترفتهُ مِن آثامٍ إلّا عليها، وهذا من تمام رحمة الله بعباده؛ أنه لا يؤاخذ أحدًا بذنبِ غيرهِ، كلّ نفسٍ بمَا كسبت رهينة.

التبويبات الأساسية