بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (274)
[سورة المائدة:2].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًاوَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة:2].
(شَعَائِرَ اللهِ) جمع شعيرة، وهي الهدايَا من البُدن وغيرِها، وكذلك سائر أعمال الحج، وأماكن أداء نسكه وفرائضه، كلها شعائر، سميت بذلك من الشعار وهو العلامة، فشعائر الحج من معالم إقامة الدين، أي: لا تغيروا أحكام الله وحدوده، التي حدها لكم في شعائره وأحكامه، وأل في (الشَّهْرَ الْحَرَامَ) للجنس، أي: لا تحلوا جنس الشهر الحرام بالقتال فيه، وبما كانت تفعله الجاهلية من النسيء، بتغيير أشهره على وفق أهوائهم، والأشهر الحرم أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والنهي عن حلها منصبٌّ على كل واحد منها، وحُرمتها الآن بتضعيف أجور الأعمال فيها، وتغليظ عقوبة الآثام، وليس لها أحكام بالتحريم تخصُّها، فلا يَحرم فيها ما ليس حرامًا في غيرها، لا صيد ولا جهاد، فقد نسخ النهي عن القتال فيها (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ) الهدي كالهدايا، جمع مفرده هَدَيَة بفتحتين، كجدْي جمع جَدَية، وهو ما يساق إلى البيت من النسك ليذبح في منى أو على المروة بمكة، تقربًا إلى الله، والقلائد جمع قلادة، وهي: ما يعلق في عنق الحيوان الذي يراد للهدي من نعل، أو يفتل على هيئة القلادة من لِحا الشجر وورقه، بحيث يعرفُ أنه صدقة، فلا يتعرضُ له أحد، وذِكر القلائد بعد الهدي مبالغةٌ في تحريم الاعتداء على الهدْي، بحيث يعرفُ فلا يُتعرض له أصلًا، فضلًا عن استحلاله، وآمِّينَ البيتَ الحرامَ: قاصدينَ البيت الحرام، أي: لا يحلُّ لكم التعرضُ ولا الغارةُ على القاصدينَ البيتَ الحرام، ولا أن تمنعوهم منه؛ لأن قصد البيت للنسكِ مِن تعظيم الدين، فلا تعتدُوا على من يعظمه، وهو نهيٌ عام على التعرض للمسلم والمشركِ، من أجل حرمةِ المكان المقصود، لتعظمَ هيبتُه في قلوبِ الناس، وقد وردَ في سبب نزول الآيةِ ما يشيرُ إلى هذا المعنى، وهو أَنَّ شُرَيْحَ بْن ضُبَيْعَةَ – الْمُلَقَّب بِالْحُطَمِ – أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن اليمامةِ إلى المدينة، فخلّف خيلَه خارجَ المدينة، ودخلَ وحدَه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلامَ تدعو الناس؟ قال: (إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله، وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة)، فقال: حسنٌ، إلّا أنّ لي أمراءَ لا أقطعُ أمرًا دونَهم، ولعلي أُسلمُ وآتي بهم، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (يدخلُ عليكم رجلٌ يتكلمُ بلسانِ شيطان)، ثم خرج من عنده، فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم)، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه، فطلبوه فعجزوا عنه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال لأصحابه: (هذا الحُطَم وأصحابه)، وكان قد قلد هديًا من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ…)[1]، يريد: ما أشعر لله، وإن كان على غير دين الإسلام.
وقال زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدَّهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمرّ بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صُدّ هؤلاء كما صدَّنا أصحابهم، فأنزل الله تعالى: (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)”([2])، وهذا كان قبل نزول قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا)([3])، فمُنع المشركون من الحرم بعد نزولها.
والبيت الحرام: الكعبة المشرفة، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)([4])، وجملة (يَبْتَغُونَ فَضْلًا) صفة لآمّين البيت الحرام؛ فهم يقصدونه للزيارة، يطلبون فضلًا من الله بتحصيل مصالح دينية، وهي رضوان الله ومثوبته، وأخرى دنيوية، كالتجارة وغيرها.
وجملة (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) هي مفهوم قوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي: فإذا زالَ عنكم الإحرامَ وحللتم فاصطادوا، فقد رجعت الإباحة، التي هي الحكم الأصلي للصيد قبل الإحرام، فالأمر أفاد الإباحةَ بعد النهي الطارئ بسبب الإحرام، التي هي في الحقيقة رجوع إلى الحكم الأصلي، وهو إباحة الصيد، الذي توقف بسبب الإحرام، ولم يفد إباحة الصيد في الآية الأمر به؛ لأن الأمر الوارد في الآية معناه رفع الحظر الطارئ، وقاعدة الأصوليين في أنّ الأمر بعد النهي للإباحة هي في النهي الأصلي المستمر، وليس المؤقت، فهو عند التحقيق يختلف عما هنا (ولا يَجْرِمَنَّكُمْ) من جرم، يقال: جرم وأجرم، بمعنى: كسب وسعى، ومنه الجريمة، وبهذا المعنى يتعدى جرم لمفعولين بنفسه، والشنآن في قوله (شَنَآنُ قَوْمٍ) هو: شدة البغض والكره، ومنه قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)([5])، أي: مُبغضُك، أي: لا يكسبنَّكم بُغضُ قومٍ عدوانًا عليهم، فتظلمُوهم، وتعتدُوا عليهم، وتمنعُوهم حقوقَهم، ولا تعدلُوا في التعامل معهم، وتكون (جرم) أيضًا بمعنى حمَل، وتتعدى للمفعولِ الثاني بالجارّ، أي: ولا يحملنكم بغض قوم – وهم من صدوكم عن المسجد الحرام في الحديبية – على الانتقامِ منهم، بل يجب الوفاء بالعهود، والأمرُ في قوله (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) تعليلٌ لما تقدم من النهي عن الانتقام، فإن العدوانَ عليهم مخالفٌ للعدلِ والتعاونِ على البر والإحسانِ، وعدم العدل كذلك منهي عنه؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان، وفي الأمر بالتعاون على البر والتقوى تشريعٌ عظيم، وتقعيد بدعوة الناس على أن يبذلوا جهودهم مجتمعين، لتحقيق كل ما فيه نفعٌ لهم وخير، ونهيٌ لهم أن يتعاونوا على كل ما فيه إثم، ومن الإثم الذي ذكرتْه الآية أن يحمل أحدًا بغضُه لغيره على الانتقامِ منه، ثم أمر الله تعالى بالتقوى، وخوَّفَ مَن يتعاونُ على خلافِ ما أمر به بالعذابِ الشديدِ، وقال في آخر الآيات (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
[1]) الطبري في تفسيره: 9/ 472-473.
[2]) يُنظر أسباب النزول للواحدي: ص191،192.
[3]) التوبة:28.
[4]) آل عمران: 96.
[5]) الكوثر: 3.