المنتخب من التفسير -الحلقة 322 - سورة الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (322)

 

[سورة الأنعام:37-39]

 

 

(وَقَالُواْ لَولَا نُزِّلَ عَلَيهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهۦۚ قُل إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةٗ وَلَٰكِنَّ أَكثَرَهُم لَا يَعلَمُونَ)(37)

هذا دأب المشركين مع الرسل، يطلبون الآيات والمعجزات ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنوا بها، فأخبر الله عن المشركين في هذه الآية بأنهم كانوا يحضون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقترحون عليه أن ينزل الله عليهم آيةً، غير الآيات والمعجزات الكثيرة التي نزلت عليهم، ويكون طلبهم لمحضِ العناد والتعنت، لا بحثًا على ما يقنعُهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، أو يطلبون معجزةً من خوارقِ العاداتِ، يقترحونَها هم على الله، مثل رفع جبل فوق رؤوسهم، كما كان مع قوم موسى عليه السلام، أو خروج الناقة من الصخرة، كما كان مع ثمود قوم صالح عليه السلام؛ لتكونَ إذا نزلت بناءً على طلبهم دليلًا دامغًا – حسَب زعمهم – على صدقِ النبي صلى الله عليه وسلم، فـ(لَوْلَا) في قوله (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) حرف تحضيضٍ وحث، و(آيَةٌ) معجزة.

ردَّ الله عليهم وقال لنبيه: أخبرهم بأن الله (قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) وهم يعلمون ذلك، بدليل أنهم رأوا العديد من هذه الآيات التي نزلت، وعلى رأسِها القرآن الكريم، الذي جاءهم به نبي منهم، يعلمون أميته، لم يقرأ كتابًا؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتلُوا۟ ‌مِن ‌قَبلِهِ ‌مِن ‌كِتَب وَلَا تَخُطُّهُ بِیَمِینِكَ إِذࣰا لَّرتَابَ ٱلمُبطِلُونَ﴾([1])، وتحداهم به فرادى ومجتمعين على أن يأتوا بسورة مثله، ولو أن يستعينوا بالجن، فعجزوا، وصرح بعضهم بذلك، وقال: ما هو بقول بشر، ومنعته المكابرة أن يذعن للحقّ.

كما أيده الله تعالى بآيات أخرى من نوع الخوارق التي اقترحوها، كانشقاق القمر، وحنين الجذع، وتكثير الطعام والماء القليل، ونبعه من بين أصابعه، وغير ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله في إنزال آياته، فإنهم يعلمون أنه لو شاء إنزال آية لأنزلها، فهو ينزلها كما يشاء وفق حكمته، لا وفق مقترحاتهم وأهوائهم، فَلَو كانوا صدقًا يطلبون المعجزة لتدلهم على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لاكتَفوا بما جاءهم من الآيات، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَم یَكفِهِم أَنَّا أَنزَلنَا ‌عَلَیكَ ‌ٱلكِتَٰبَ یُتلَىٰ عَلَیهِم إِنَّ فِی ذَٰلِكَ لَرَحمَةࣰ وَذِكرَىٰ لِقَومࣲ یُؤمِنُونَ﴾([2]).

(وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلأَرضِ وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمثَالُكُم مَّا فَرَّطنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم يُحشَرُونَ)(38)

بعد أن حذر الله تعالى المكذبين، وتوعد المنكرين للبعث بسوء عاقبتهم، وأنهم موتى القلوب، وسيبعثهم الله ويرجعون إليه للحساب؛ عطف عليهم ما يزيد المكذبين رهبة، فأخبر بقدرة الله المطلقة على جميع أمم الأرض؛ إنسها وجنها ودوابها، كلهم في حكمه وقبضته، ومرجعهم جميعا إليه.

فإنه يجري مجرى الأمم من البشر، الجماعاتُ الكبيرة من كل نوع من أنواع الحيوان، كذوات الأربع أو الرجلين أو الزواحف أو الطيور، فكل نوع منها هو كالأمة من البشر، ولذلك قال (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) هي أمثال البشر في القوانين التي فطرها الله عليها، لنظام حياتها وتكاثرها والإبقاء على كيانها، والتكفل برزقها، وإجراء قانون الأسباب عليها، كما قال موسي جوابا عن سؤال فرعون: ﴿رَبُّنَا ٱلَّذِیۤ أَعۡطَىٰ ‌كُلَّ ‌شَیۡءٍ ‌خَلۡقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾([3]).

فالدابة هنا بمعناها اللغوي، تشمل كل ما يدِب على وجه الأرض من إنسان وحيوان، في البر والبحر، وليست بالمعنى العرفي، الذي يختص بذوات الأربع (وَمَا) نافية، و(دابَّة) نكرة في سياق النفي تفيد العموم، وتأكد العموم بحرف الجر (مِنْ) فأفادَ استغراق جنسِ جميع الدواب، وزاد الاستغراقَ تعميمًا وشمولًا وصفُ الدابةِ بقوله (فِي الْأَرْضِ) فهو يؤكد عموم كلِّ ما على الأرضين من الدواب.

وقوله (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) يعم كل الطيور، ومعلوم أن كل طائر يطير، فوصفه بأنه يطير وأنه بجناحيه للتقوية والتأكيد، وذلك كما في قوله: ﴿وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوۤا۟ إِلَٰهَیۡنِ ‌ٱثۡنَیۡنِ ‌إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهࣱ وَٰحِدࣱ فَإِیَّٰیَ فَٱرۡهَبُونِ﴾([4])، وكقولك: أمس الدابر، فإن الدابر بمعنى ما قبله وتأكيد له، ومِن فائدة التأكيد رفعُ احتمال المجاز، من أن الطائرَ مراد به السرعة أو غير ذلك، كما يدل تصوير هذه الهيئة العجيبة (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) على بيان كمال قوة الله وقدرته، و(أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) جمع أمة، وهي الجماعة العظيمة التي يجمعها أمرٌ واحد، كاللغة أو الدين ونحو ذلك.

و(فَرَّطْنَا) من التفريط، وهو عدم ذكر الشيء وإهماله، والكتَاب في قوله (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ) يمكن أن يكون هو اللوح المحفوظ، وما سطر فيه مما هو ثابتٌ في علم الله، فما مِن شيء من أقدار الخلق – الناس والدواب وغيرهما – إلا ثابت في علمه، ويمكن أن يكون الكتاب هو القرآن، فيكون عدم التفريط معناه أن كلّ ما يحتاجه الناس من الأحكام كله مذكور في القرآن، لا يخرج عنه شيء، نصًّا أو استنباطًا، إمّا من القرآن، أو من الأدلة الأخرى التي دل القرآن على حجيتها، فالقرآن هو الذي دلَّ على حجية السنة والقياس والإجماع، وغير ذلك من أصول التشريع، كالعرف والمصالح وسد الذرائع، وعلى هذا المعنى يصدق شمول القرآن للأحكام في قوله (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) وفي قوله: ﴿‌تِبیَٰنا ‌لِّكُلِّ شَیۡءࣲ﴾([5]).

(ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) استعمالُ ضمير العقلاء في قوله (إِلَى رَبِّهِمْ) و(يُحْشَرُونَ) إنْ أريد رجوعه إلى أمم الأرض مطلقًا، إنسها ودوابها، فيكون عود ضمير العقلاء من باب التغليب، وإنْ أريد ما سوى الناس مِن أمم الدواب، فلإجرائهم مجراهم، وفيه أن الدواب أيضًا تحشر، ولكن حشرها يختلف عن حشر الناس، فالناس يحشرون للجزاء بالجنة أو النار على ما كلفوا في الدنيا، أما سائر الحيوان من الدواب والطير غير الإنسان، فليس عليها تكليف، فلا جزاء بجنة، ولا عقاب بنار قطعًا.

واختلف في حشرها، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ حشرَها موتُها، وجاء في السنة ما يدل على أن موتها يكون بعد القصاص بينها، بِما يدل على أنه ليس لمخلوق أيًّا كان أن يستقوي على آخر أضعفَ منه، ثم يفلتَ دون أن يمكَّنَ المظلومُ من أخذ حقه ممن تعدى عليه، وذلك لإقامة الحق على أكمل وجه، وليتحقق عدل الله المطلق، وأنه لم يترك شيئا من خلقه هملا، يفعل بغيره ما يريد، ثُمَّ بعد التخالص تكون الدواب ترابًا، وقد جاء عن أبي هُريرة رضي الله عنه؛ أن الكافر عندما يرى ذلك يتمنى أن يكون ترابًا، وفي الحديث: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ)([6]).

وفي رواية أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: (انْتَطَحَتْ شَاتَانِ أَوْ عَنْزَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ؛ أَتَدْرِي فِيمَ انْتَطَحَتَا، قُلْتُ: لَا، قَالَ: لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)([7])، وفي قراءة (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).

وفي ما جاءت به السنة من القصاص بين الشاة القرناء والجلحاء، ما يدل على تحريم تعذيب الحيوان، وتحميلِه ما لا يطيق؛ لأنه إذا كان يقتص منه لبعضه؛ فالقصاص ممن ظلمه من المكلفين أولى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دَخَلتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ)([8]).

(وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا صُمّٞ وَبُكمٞ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضللهُ وَمَن يَشَأ يَجعَلهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّستَقِيمٖ)(39)

جملة (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) مبتدأ معطوف على قوله (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) فالذين يسمعون استجابوا، والذين كذبوا بالقرآن وهم المشركون لا يستجيبون (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) فقوله (صُمٌّ) وما بعده خبر بعد خبر للمبتدأ في قوله (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) وكل خبر يحكي وصفا من أوصاف المكذبين، فهم (صُمٌّ) يمنعون أنفسهم من سماع الحق، وإذا سمعوه نفروا منه كأنهم لم يسمعوه، وهم بُكمٌ لا يقدرون أن يتكلموا ولا يسترشدون بما ينفعهم، ولا يستفهمون عما يجهلونه، أي لا يريدون ذلك، فـ(صمٌّ) جمع أصم، وهو الأطرش، و(بكمٌ) جمع أبكم وهو الأخرس.

وقوله (فِي الظُّلُمَاتِ) خبر ثالث، أو حال، أي هم كالعُميان لا يبصرون طريق الحق على وضوحه، تحيط بهم الظلمات من كل جهة؛ ظلمة الكفر، وظلمة التقليد للآباء، وظلمة العناد والمكابرة.

والصراط المستقيم: الطريق الذي لا التواء ولا اعوجاج فيه، الذي يوصل إلى المقصود دون شطط ولا عناء، وهو طريق الحق والهداية، بخلاف المعوج الملتوي، فهو طويل شاق، وهو طريق الضلال والظلمات.

وأما قوله (مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ) فمعناه أن الله تعالى له حكمة في خلقه، مَن علم منه الخير ومَيلَه إليه قدّر له الخير، ووفقه إليه، ومَن علم منه الشر والعناد قدر له طريقه، ومع القدَر – الذي هو وفق مشيئته ولا يعلمه أحد واستأثر به ـ أَمَر الناس جميعًا بالاستقامة والعمل، ورغب فيها، ووعد أهلها بالجنة، وأمر بترك الغِواية، وحذّر منها، وتوعّد عليها بالنار، وأخفى قدره الذي قدّره على خلقه، حتى لا تكون معرفته عذرًا لأحد في معصيته، وأعطى لكلّ أحد اختيارًا، يختار لنفسه كما يشاءُ، قال تعالى: ﴿لِمَن شَاءَ ‌مِنكُم ‌أَن یَستَقِیمَ﴾([9])، ﴿إِنَّ هَٰذِهِ ‌تَذكِرَةࣱ ‌فَمَن ‌شَاۤءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِیلًا﴾([10])، وقال: ﴿‌وَهَدَینَٰهُ ٱلنَّجدَینِ﴾([11]).

فمن اختار الضلالة فقد أوبق نفسه، واختار هلاكه، ومن اختار الاستقامةَ فقد أفلح.

 

[1])    العنكبوت: 48.

[2])    العنكبوت: 51.

[3])    طه: 50.

[4])    النحل: 51.

[5])    النحل: 89.

[6])    مسلم: 6672.

[7])    مسند أحمد: 21476.

[8])    البخاري: 3318، مسلم: 7158.

[9])    التكوير: 28.

[10])  المزمل: 19، الإنسان: 29.

[11])  البلد: 10.

التبويبات الأساسية