المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 171- تابع سورة آل عمران

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (171).
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[آل عمران:75-77].

من إنصاف القرآن أنه ذكر هنا فريقين من اليهود، فريق بلغ الغاية في الأمانة كعبد الله بن سلام وأمثاله، فأثنى عليهم، ومدحهم، وفريقٌ آخر بلغ الغاية في الخيانة وعدم الوفاء، ولفتَ إلى التعجيبِ من الفريقين، الأول تعجيبُ مدح في حفظ المال الكثير - وهو القنطار - بأدائه، وردِّه لأهله لو وقع في أيديهم، والثاني تعجيبُ ذمٍّ في تضييع ما يقع بأيديهم من المال، بالطمع حتى في القليل منه - وهو الدينار - وأطال القرآن في تفصيل هذا الفريق الثاني ببيان خيانتهم، وبغضهم للمؤمنين بقوله: (لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)، وجملة (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) معطوفة على ما قالته طائفة منهم لجماعتهم: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)، والقنطار: المال الكثير، وقد تقدم في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ)، و(تَأْمَنْهُ) تؤمِّنه وتستودعه مالًا لحفظه( ) (بِدِينَارٍ) الدينار: ما سُكَّ من الذهب للتعامل به، ويصنع من الذهب الخالص، ووزنه 4.25 جرامًا، ويسمى المثقال أيضًا (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا)( ) والمعنى: ومن أهل الكتاب فريق لا يردُّ إليك ما ائتمنته عليه إلا مدةَ قيامك تطالبه، وتلحّ عليه، وتقاضيه، وتخاصمه عليه، وهو ما يدل على مشروعية مقاضاة الغريم المماطل وحبسه في الدَّين (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) الإشارة في (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا) إلى خيانتهم المفهومة من قوله: (مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)، والباء في قوله (بِأَنَّهُمْ) للسببية؛ ليزدادَ التعجيبُ من حالهم في الخيانة ببيان سببه المقيت الجائر، وهو قولهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)( )، الأميون: يعنون بهم العرب الذين ليسوا مِن أهل الكتاب، يقصدون بتسميتهم أمِّيين تحقيرهم، ورميهم بالجهل، وأنهم أدنى مستوًى من اليهود، فالعنصرية متأصلةٌ فيهم، والسبيل: الطريق، ومعناه المؤاخذة واللوم، كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ)( )، وقولهم هذا عن العرب من جملة تحريفهم لدينهم؛ فهم يقولون: إنّ التوراة أباحتْ لهم ظلم الأميين، وأكلَ أموالهم بالباطل، وقالوا عنهم: هؤلاء ليس لهم عندنا حرمة، ولا في أكل أموالهم لومٌ ولا مؤاخذة، وهذا غاية الاستعلاء والتكبر، أن يستبيح أحدٌ مالًا بغير حقّ، ثم يبرر تعدّيه بأنه أفضلُ من الضحية؛ لأن الضحية من الأميين (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وهم بذلك يفترون على الله، ويقولون عليه الكذب، وينسبون إليه ما لمْ يقله، ولم يأمرهم به، يفعلون ذلك (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم يكذبون على الله، فليس هذا في كتابهم، وإنما هم تأوَّلوه بالباطل، وحرفوا ما فيه. 
 (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)( ) (بَلَى) تكذيب لهم، بإيجاب ما نفوه بقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، وبيان أنّ قولهم هذا محضُ كذب، فإنّ اللوم عليهم قائمٌ، وحكم الله وهو العدل والقسط بين الناس سواء، ولم يخص فيه أهل الكتاب بأكل أموال الأميين ظلمًا، فقانونه واحدٌ مع الناس جميعًا، ولذا جاء الجواب بـ(مَن) في قوله: بَلَى مَنْ أَوْفَى، الدال على العموم؛ ليعمهم هم وغيرهم.
والمعنى: من التزم الصدق والحق واتَّقى، وأدّى ما عليه، ووَفى بعهده فلم يخلفْ، ولم يكذب، وكان من الذين أسلموا وجههم لله، ووقفوا عند أمره ونهيه، فإن الله تعالى يحبهم، فالله لا يحب المخْلِفين ولا الكاذبين أيًّا كانوا، من اليهود أو مِن غيرهم. 
 (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) الآية استئنافٌ ابتدائي لبيان حالٍ آخر مِن أحوال أحبار اليهود، ويَشْتَرُونَ: يستبدلون، والعهدُ تقدمَ في سورة البقرة - في خطاب بني إسرائيل: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)( ) - أنّ من معانيه عند اليهودِ الدِّين، ومنه تسمية كتابهم بالعهد القديم، وقوله هنا (بِعَهْدِ اللهِ) أي ما عاهدوا الله عليه من الإيمان بكتابهم ونبيهم، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي يجدون وصفه في كتبهم، ثمّ يخفُونه، ويحرفون الأحكام التي تخالف أهواءهم، وإن كانت في  التوراة، ويستبدلون أيضًا ما أعطوا عليه من العهود والأيمان، أن يومنوا به، من مثل قولهم الآتي: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)، يستبدلون بالأيمان الكاذبة (ثَمَنًا قَلِيلًا) عرضًا رخيصًا من الدنيا، رشوة يغيرون بها الأحكام، أو يكتمون بها الحقَّ فلا يبينونه، ويحلفون على ذلك الأيمانَ الكاذبةَ ليروج كلامهم، أو يشهدونَ بها الزور، أو يحلفون كذبًا في بيعٍ لينفقوا السلعة، أو في خصومةٍ ليأكلوا بها  أموال الناس بالباطل، وكلّ ذلك عندهم (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) لا حظَّ لهم في الآخرة؛ لأنهم استوفوا حظوظهم في الدنيا (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) كلامًا يرحمهم به ويُرضيهم (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يُعرضُ الله عنهم، ويسخط عليهم لعِظم ما ارتكبوا، باستحلال أموال الناس باليمين الكاذبة (وَلَا يُزَكِّيهِمْ) لا يطهرهم من الذنوب، ولا يثني عليهم، ولا يرفع شأنهم (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لإعراضِ الله عنهم.
 قيل: نزلت الآية في أحبار اليهود، الذين يأخذون الرشوةَ على تبديل الأحكام، وكتمان الحق، وقيل: نزلت فيمَن أقام سلعةً في السوق، وحلفَ لقد اشتراها بما لم يشترِها به، وقيل: نزلت في خصومةٍ على أرض، كانت بين الأشعث بن قيس ويهودي، وتوجَّه الحلف على اليهودي، وفي البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ رَجُلٍ - أَوْ قَالَ: أَخِيهِ - لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي القُرْآنِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا})( )، وأيًّا ما كان سبب النزول فإن حكمَها يعمّهم، ويعمّ كل الأحوال المشابهةِ والمماثلةِ، التي تزوِّر الحقَّ أو تزيِّفه، أو تكتمه على عرضٍ رخيصٍ من الدنيا.

التبويبات الأساسية