المنتخب من التفسير -الحلقة 247- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (247)

[النساء:80-82].

 

(مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا)([1])[النساء:80-81].

(مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) تَوَلَّى: أدبَرَ وأعرضَ وكابرَ، وحَفِيظًا أي ما أرسلناك عليهم حارسًا ورقيبًا (فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ) خرجُوا من عندِك (بَيَّتَ) أسرّ وأضمرَ قولًا آخرَ غير الطاعة، وَالتَّبْيِيتُ: جَعلُ الشَّيْءِ فِي البَيَاتِ باللَّيلِ، مِثْلُ التَّصْبِيحِ، جَعْله بالصباح، يُقَالُ: بَيَّتَهُمُ الْعَدُوُّ وَصَبَّحَهُمُ، قال تعالى: (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ)([2])، أَيْ لنأتينّهم لَيلًا، فلا نُبقيَنَّ منهم أحدًا، وكل عمل يُرادُ إخفاؤُه يُنسب للَّيل، والعرب تقول: الليلُ أكتمُ للسرِّ، ومنه قولهم: أمرٌ دُبِّر بِلَيْل، وشاعَ لفظُ التبييت في تدبيرِ السوءِ بالليلِ والعزمِ عليه (وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ) يثبته في صحائفِهم، فمكرُهم وما يدبِّرون يُسجّلُ عليهم، واستعملَ المضارع (يَكْتُبُ) ليفيدَ أنّ المحاسبةَ عليهم والكتابةَ لما يبيتونَ متجددةٌ مستمرةٌ.

لمّا بيَّن اللهُ في الآياتِ السابقة أن التأثيرَ في الحوادث، وتقديرَ المقادير، كلُّه لله وحده، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس له في هذا الأمر شيء، ربَّما توهَّموا ـ وهم لا يكادونَ يفقهونَ حديثًا ـ أن هناك فرقًا بين أمرِ الله وأمرِ رسوله في الأحكام، وفي الأوامِرِ والنواهِي، والطاعةِ والعصيانِ، فذكرَ سبحانه قولًا محكمًا، وقاعدةً إيمانيةً ثابتة، أنّ مَن يطعِ الرسولَ هو في حقيقة أمره أطاعَ الله، ومعنى ذلك أن مَن عصَى الرسولَ فقد عصَى الله، ومَن تولى وأعرضَ وكابر في طاعة الرسولِ فما أرسلناكَ عليهم حَفِيظًا، فلا تبالِ به، وأعرض عنه، فالله يتولى أمره ولن يفلته، وما أنت عليهم بجبار، ثم ذَكَر أن منهم منافقينَ، يقولونَ إذا كانوا معك: نسمعُ ونطيعُ، فإذا برَزوا وخرجُوا مِن عندكَ أَسرُّوا فيما بينهم غير الذي كانوا يقولُونه، أسرُّوا قولًا آخر، ليس بسمعٍ ولا طاعة، واللهُ غيرُ غافلٍ عنهم، يكتبُ مكرَهم وما يبيتُونه، فلا تبالِ بهم، ولا يهولنَّك ما يقولونَ، فأعرضْ عنهم، وتوكّلْ على الله، امضِ فيما أنتَ عليه، فالله كافيك أمرهم، وكفى به وكيلًا.

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء:82]

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) الهمزة للاستفهام التوبيخي، على تركهم التدبرَ في القرآن، والتدبرُ مأخوذٌ من الدّبر، وهو الظَّهر؛ لأن المتأملَ يحتاجُ إلى النظر في أدبارِ الأمور، وما فاتَ منها، ثم استُعمل في كل تأمّلٍ، سواء كان في السوابقِ والأسبابِ، أو اللَّواحِقِ والأَعقابِ، أو في حقيقةِ الشيءِ وتفاصيلِه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) الاختلاف: التناقضُ، ووصفُ الاختلافِ بكونه: كَثِيرًا فيمَا كان مِن عندِ غير الله، لا مفهومَ له، فليس المعنى أنه إذا كان مِن عند اللهِ يكونُ الاختلافُ فيه قليلًا، فإن القرآنَ لا تناقضَ ولا اختلافَ فيه مطلقًا؛ لكونه مِن عندِ الله.

والاختلافُ المنفيُّ عن القرآنِ، المتوهّم رميهُ به مِن خصومِه لو كان موجودًا، قد يكون في المعنى بفسادِه، أو تناقضِه وتضاربه، أو ضعفِه، أو صحةِ بعضِ ما يخبرُ به دونَ بعض، وقد يكون في ألفاظِهِ وتراكيبه، فيكونُ بعضُه فصيحًا وبعضُه ركيكًا، وغير ذلك، فَتَّش خصومُه قديمًا وحديثًا عن ذلك كله وغيره،  فلم يعثُروا على ما يَعيبُه، فَلَو تأمَّلُوا في القرآنِ لعلِمُوا أنه مِن عند الله؛ إذ لا يخفَى على من عابُوهُ مِن أهلِ مكةَ، أنه لو كانَ من عندِ البشرِ لوجدُوا فيه هذا التناقضَ والاختلاف، وقد تحدَّاهم اللهُ تعالى بهِ ومعهم الإنسُ والجنُّ مجتمعينَ، أن يأتُوا بمثله، وبأقصرِ سورة منه، فعجزُوا، وقد اعترفَ بعضُهم في مجالسهم الخاصة أنّه ليسَ من قولِ البشر، وأنه لا يمكنُ أن يكونَ إلَّا من عند قادرٍ على ما لا يقدرُ عليهِ غيره، عالمٍ بما لا يعلمُه أحدٌ سواه، وكانَ القرآن في إعجازه كذلكَ؛ ليكونَ حجةً على الخلقِ إلى يومِ الدين.

[1]) حفيظًا منصوبٌ على الحال؛ بتأويل حافظًا، وطاعةٌ: خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: أمرُنا طاعةٌ، كقولهم: سمعٌ وطاعةٌ، وفاعلُ (تقولُ) في قوله (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) يصحُّ أن يكونَ ضمير الغائب، يعودُ على الطائفة، أي: بيتتِ الطائفةُ كلامًا غير الذي كانت تقولُه، ويصح أن يكون الفاعلُ ضمير المخاطب، وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فهم يبيتون كلامًا غير الذي تقولُه أنت لهم.

[2]) النمل:49.

التبويبات الأساسية