المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 140- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (140).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[البقرة:267-269].

 

 (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) عود إلى الأمر بالإنفاق، وهو أمر موجه إلى الإنفاق من الطيب، يدخل فيه الإنفاق الواجب من الزكاة ونحوها، مما وجبت فيه المواساة من المال عند الحاجة، ويدخل فيه التطوع والإحسان بالنفقة غير الواجبة، فكلاهما - الواجب والتطوع - لا يقع موقعه من القبول إلا إذا كان مِن طيب المال، والطيب معناه أن يكون حلالًا جيدًا لا رديئًا، فالحلالُ شرطٌ لأصل القَبول في كلّ نفقةٍ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)([1])، والنفقة من الجيد تؤهل المنفق لأنْ يكون من الأبرار، كما قال عزّ وجلّ: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)([2])، فالبرّ مرهون بالإنفاق مما تحبه النفسُ، والنفس بطبيعتها لا تحبُّ إلا الجيّدَ، و(مَا كَسَبْتُمْ) من الكسب: وهو ما يتحصلُ عليه الإنسان بالسعي من تجارة أو صناعة، أو نحو ذلك (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) من الزروع والحبوب والثمار والمعادن ونحوها (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) لا تعمدوا وتقصدوا إلى السيء الرديء، لتنفقوا منه، وتحتفظوا لأنفسكم بالجيد، وجملة (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) في موضع الحال، وتقديم الجار (مِنْهُ) على الفعل يفيد الاختصاص، ويجعل النهي خاصًّا بمَن لا ينفقُ إلا مِن الرديء، فهو وحده محلُّ الذم، لا مَن أنفق منَ الجيد والرديءِ، أو مِن الوسطِ (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) الجملة حالية، أي: والحالُ أنكم لا تؤخذون الرديءَ الذي أنفقتموه لو أعطي لكم، إلّا أن (تُغْمِضُوا فِيهِ)[3] إلا أنْ تتغاضَوا عنه وتتجاوزوا، أيْ أنّ الرديء الذي تقصدون إلى الإنفاق منه، لو أعطيه أحدكم في معاملة أو معاوضة لا يأخذه، إلا بشيء من التساهل فيه، ولا يكون راضيًا بأخذه، فكيف تخصونه بالإنفاق وهو رديء، تبتغون به مرضاة الله تعالى، ولا ترضونه لأنفسكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ) غِناه سبحانه مطلق، لا يفتقر لأحد، فما تنفقونه من جيد أو رديء نفعُهُ عائدٌ إليكم (حَمِيدٌ) مع غناه وعدم افتقاره، شكورٌ يكافئُ صانع المعروف ويشكر له، ويعطيه الثواب، فقابلوا إحسانه بكريم إنفاقكم.

 (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ) (الشَّيْطَانُ) تقدم الكلام على  اسم الشيطان في الاستعاذة، وتصدير الجملة باسم الشيطان للإشعار بشؤم ما يأتي بعده من خبر، وهو وعوده الكاذبة؛ لتجنبها والتنفير منها، فقوله: (يَعِدُكُمُ) من الوعد، وهو الإخبار بما يحصل في المستقبل مِن خير أو شر، إلا أنه شاع استعمال الوعد في الخير، والإيعاد والوعيد في الشر، استعمالا شائعا، حتى إن خلافه يعدونه تهكمًا، وهو مستعمل هنا في الإغواء، أي: يُسوِّل ويزين لكم البخل، ويلقي في قلوبكم التخويف من عاقبة الإنفاق، وأنه يؤول عليكم بالاحتياج والفقر، الذي يحجز صاحبه - حسب تزيينه - عن تحصيل لوازم الحياة[4].

 (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) الفحشاء من الفحش، وأصله تجاوز الحد، وخصَّه الشرع بتجاوز الحدّ في القبح، فالفحشاء: القبائح من المعاصي، مِن الأقوال والأفعال، وأمرُ الشيطان بها تزيينُه للشهوات المحرمة، والإغراء عليها بالوسوسة، فهو لا يكلم الناس، ولكن يدعوهم إلى المعاصي بوسائله، فيستجيبون له، كما قال عز وجل عنه: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم)([5]).

ويدخل فيما يأمر به من الفحشاءِ تخويفُه من الإنفاقِ خشيةَ الفقر، والإنفاق رياءً، والمنُّ بالإنفاق بعد وقوعه، فكلّ هذا من أنواع الفحشاء، التي يسلكها الشيطان في الإيقاع بالضحية؛ لمنعه من فعل الخير، أو إبطاله وإفساده عليه بعد حصوله، فكلما عجز معه من الشر عن أمر انتقلَ للذي يليه، فلا ييأس منه؛ لأنّه تعهدَ لله بقوله: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)([6])، والحيّ لا يأمنُ الفتنة.

(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) عطفت على ما قبلها ولم تفصل، لأنها في سياق المقارنة، وإظهار الفرق بين ما يعِد به الشيطان من الفقر، وما وعد به الله على الإنفاق في الآخرة من الأجر، وما وعدَ به في الدنيا من الفضل بالتعويض والخلف، كما قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)([7])، والله واسع الخير، عمَّ العالمين فضلُه، عليمٌ بشؤون خلْقه، فيغفر ويضاعف المثوبة لمن أنفق وأخلص، وقد جاء عن بعض السلف أن الله وعد عباده بخلف ما أنفقوا في أكثر من سبعين موضعًا في القرآن، ووعدهم الشيطان بالفقر في موضع واحد، فصدقوا وعد الشيطان، ولم يسمعوا وعد الله.

 (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) الحكمة في اللغة من الحكم، بمعنى المنع، ومنه سميت حديدة اللجام في فم الدابة حكمة؛ لأنّ بها تمنع، وهي أيضا بمعنى الإحكام والتحقيق والإتقان، والتمكن من العلم النافع، والعمل بمقتضاه، وفسرت أيضا  بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، بحيث لا يلتبس بعضها ببعض، ومعنى يؤتيها: يتفضل بها عليه بتوفيقه إليها، وتهيئته للأخذ بأسبابها[8]، وقدمت الحكمة في الآية لأنها المقصود بالحرص عليها، والترغيب فيها (وَمَنْ يُؤْتَ[9] الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) فقد أعطي خيرًا كثيرًا، والتنكير في (خَيْرًا) للتعظيم، وذلك لتحصيل من أوتي الحكمة على خيري الدارين، السؤدد والرفعة وعلو الشأن في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة، لما وُفق إليه من إتقان العلمِ والعمل بمقتضاه (وَمَا يَذَّكَّرُ) ويتعظ بما يسمع وينتفع به (إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) أصحاب العقول الراجحة، والألباب جمع لُبّ: الخالص من كل شيء، وقد تقدم.

 

 

[1]) مسلم: 1686.

[2]) آل عمران: 92.

[3]) أصل (تغمضوا) من إغماض الجفنِ لمن لا يريد أن يرى شيئا، فاستعمل في التغافل والتساهل وغض النظر.

[4]) الفقر من فقِره إذا كسر فِقار ظهره، بتشبيه الفقير العاجز عن إدراك حاجاته، بمن أقعده كسر فقار ظهره عن حركة بدنه، ومنه الفاقرة للمصيبة، كأنها تأتي على فقار الظهر فتكسرها.

[5]) إبراهيم: 22.

[6]) إبراهيم: 16.

[7]) سبأ: 39.

[8]) فيؤتي بمعنى يعطي، والحكمة مفعول ثانٍ ليؤتي.

[9]) بني الفعل للمجهول؛ لأن المقصود بيان فضيلة من أُعطي الحكمة، وللعلم بمن أعطاها، فالفاعل متعين، وإن لم يذكر.

التبويبات الأساسية