بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (237)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللهِ نَصِيرًا مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:44-46].
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا) الخطابُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكلّ أحدٍ تتأتَّى منه الرؤية مِن المؤمنين، والرؤيةُ يصحُّ أن تكونَ بصريةً، وقياسُها أن تُعدَّى بـ(إلى)؛ لما فيها من معنى النظر، ويصحُّ أن تكون قلبيةً علميةً، وتعدت بـ(إلى) لأنها ضُمِّنتْ معنى الانتهاء، أي: ألم ينتهِ علمُكم إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتَاب؟ والنصيب: الحظُّ، وتنكيرُه للتقليل، والتقليلُ قد يكون حسًّا، وقد يكون معنًى، وقلته بالنسبة إليهم تكونُ لعدمِ انتفاعِهم بما أُوتوا، و مِنْ في قوله (مِنَ الْكِتَابِ) بيانيةٌ، والْكِتَابُ هو التوراة، و(الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) أحبارُ اليهود، الذين عَلِموا الحق مِن كِتابهم، لكنهم تركُوه، واشتروا واستبدَلُوا به الضلالةَ، بسبُلٍ وطرقٍ شتَّى، تارةً بكتمانِ الحقِّ الذي عَلِموهُ عن نبوةِ محمد صلى الله عليه وسلم، حتَّى لا يؤمنُوا به، وتارةً بالتحريفِ والتبديل؛ اتباعًا لشهواتِهم وأهوائِهم، وتارةً بالرشوةِ والسحتِ؛ ليأكلُوا بآياتِ الله ثمنًا قليلًا (وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ) يتمنونَ ويسعونَ بكلِّ ما أوتوا أنْ يَضلّ المسلمون مثلهم، حتى لا يفضلُوا عليهم باتباعِ الدين؛ حسدًا من عند أنفسِهم، كما أخبرَ تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)([1])، وقولُه (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) جملةٌ مؤكدةٌ لقوله (يُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ) فهو أعلمُ منكم بأعدائِكم من اليهود وغيرهم، وقد حَذَّركم منهم، وبَيَّن لكم عداوتهم، فاحذرُوهم (وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا) اطمئِنوا؛ فإنّ عداوتَهم لكم لن تضرَّكم؛ لأنّ اللهَ يمنعُكم منهم، ويكفيكُم بَأْسَهُم، وكفى به مواليًا ومناصرًا، لا تحتاجونَ معه إلى أحدٍ غيرِه، فثقُوا به، واعتمدُوا عليه، وفعل (كَفَى) -وهو بمعنَى الكافِي والنصير- تدخلُ الباء على فاعله كثيرًا؛ لتقويةِ ارتباطِ معنى الفعلِ بفاعلهِ في الوثوقِ به، وأنّه لا يحتاجُ مع الفاعل إلى غيرهِ، فيما يقتضيهِ الفعلُ مِن الكفاية.
(مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ) يصحُّ أن تكونَ (مِن) تبعيضيةً، خبرًا لمبتدأ محذوفٍ، حُذف اكتفاءً بصفته، وهي جملة (يُحَرِّفُونَ) وذلك شائعٌ، إذا كان المبتدأ المحذوفُ جزءًا من اسمٍ قبله مجرور بـ(مِن) أو الإضافة، والتقديرُ هنا: مِن الذين هادُوا قومٌ يحرفونَ الكلم؛ ومنه قول العرب: (منّا ظَعنَ ومنّا أَقامَ)، أي منَّا ظعنَ جماعةٌ، ومنّا أقام آخرون، ويصحُّ أن تكون (مِن) مبيّنة، للذين أُوتُوا نصيبًا مِن الكتابِ، فبيّنتْهم أنّهم قومٌ من اليهودِ، يشترونَ الضلالة، وتكون جملةُ (يُحَرِّفُونَ) في موضعِ الحال، وتحريفُ الكلمِ: تبديلُ الوحي وتغييرُه، والميلُ به من السواءِ إلى الطرفِ، مأخوذٌ من الحرفِ، وهو طرفُ الشيءِ وحافتُهُ، ومنه قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ)([2])، فالمُحرِّف يَـحِيدُ في معنى الكلام، ويَحيدُ في العبادةِ عن السَّواء، ويقصدُ إلى الميل والاعوِجاج، ويمكنُ حملُ التحريف الذي يفعلونَه على تغييرِ العبارةِ، بوضعِ حرفٍ مكانَ حرفٍ، كما غيَّروا عندما قيل لهم: قولوا حِطةٌ، فقالوا: حبّةٌ في شَعرة؛ تلاعبًا بالتكاليف، ويمكنُ حمل قوله (عَن مَّوَاضِعِهِ) على المعاني التي وُضعتْ له بمقتضَى اللغة، فيحرفونهُ عن المعنى المرادِ منه؛ تبعًا لهواهم، وقوله (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) عطفٌ على (يُحَرِّفُونَ) يضيفُ لونًا آخرَ من كفرهم: كفرٌ بالعمل والأفعالِ، وكفرٌ أيضًا باللسانِ والأقوالِ، يأتونَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليُؤذوهُ، يقولون له: الكلامُ الذي تقولُه، سمعناهُ بآذانِنا، فلا حاجةَ لأنْ تعيدَه علينا، ولكن عَصينا، فلا تطمعْ في إيمانِنا (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) يصحُّ أن تكونَ جملةً أرادُوا بها الدعاءَ على النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى لا أسمَعَكَ اللهُ، وأصابَكَ بالصّمَم، وهم بذلك يعلنونَ تمادِيَهم على تحريفِ الكلم، فظاهرُ العبارةِ التلطفُ في الخطابِ، فغير مسمعٍ: أي فاسمعْ منَّا تلطفًا غيرَ آمرينَ لك، أو غيرَ مسمعٍ منّا مكروهًا، هذا مَا يُظهرونَه، وهم يضمرونَ الدعاءَ عليه: أي لا أسمَعَكَ اللهُ (وَرَاعِنَا) يضيفونَ إلى ذلك خيانةً أخرى، فيقولون له: راعِنا، وظاهرُها أنهم يطلبونَ منه الرعاية لهم، والترفقَ بهم، فلا يقسُو عليهم في التعليم، ولكنهم قصدوا إلى معنًى آخَر خبيث، في لغتهم العبرية (رَاعْوِنا) من الرعونة، والعرامة، والسَّفَه (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) من اللَّيّ، بمعنى: اللَّوي والثَّني والانعطافِ، يقولون: راعِنا، يلوونَ بها ألسنتهم عند التكلم، بحيث تكونُ الكلمة بين العربيةِ، بمعنى الرعاية والعناية، وبين العبريةِ (رَاعْوِنا) بمعنى الرعونة، فهم يلوونَ ألسنتهم بها؛ إشارةً إلى مرادِهم الخبيث، وهو وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرعونة؛ قَبَّحهم الله، وأنزلَ بهم ما يستحقُّون (وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) مفعول لأجله، يفعلون ذلك التحريفَ واللَّيّ في الكلام؛ لأجلِ الطعنِ في الدين، والاستهزاءِ به، وتشويهِهِ؛ تنفيرًا لأَتْباعِهم منه.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولو كانوا عقلاءَ لقالوا: سمعْنا وأطعْنَا، بدلَ سمعْنا وعصيْنا، قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)([3])، فسماعُ الحقِّ تلازمُه الطاعةُ، حتى إنها تجرِي معه في اللفظ ِمجرى المَثَل، فيقال: سمعٌ وطاعةٌ، محذوفة المبتدأِ أو الخبرِ (وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا) لو قالوا انتظِرْنا وارفُقْ بِنَا، بدل رعونَتِهم وقولهم الخبيث: راعِنا، لو فعلُوا ذلك لرَجَوا أنْ يُفلحُوا ويرشدُوا، و(لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) ولسَلَكُوا طريقًا قيمًا مستقيمًا، ليس به اعوجاجٌ (وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) بسببِ اختيارِهم طريقَ الضلالة، وإرادتِهم أن يضلَّ غيرُهم، حقَّتْ عليهم اللعنةُ، وطرِدُوا مِن رحمة الله (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ليس لهم أملٌ في الإيمان، حُرمُوا منه ومُنِعوا بالكليّة، فالقلةُ في قوله (إِلَّا قَلِيلًا) مستعملةٌ في معنى النفي والانعدام، وليس معناه أنّ معهم إيمانًا ولكنّه قليلٌ، فهذا الأسلوبُ هو مِن نفي الشيءِ بما يوهِم إثباتَه، كمَا يُقالُ: فلانٌ قليلُ الحياء، أي: لا حياءَ عنده، ومنه قوله تعالى: (أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)([4])، ليس لهم معَ شِركِهم اتعاظٌ، ولا تذَكُّرٌ بما يسمعونَ على الإطلاقِ.
[1]) البقرة: 109.
[2]) الحج: 11.
[3]) النور: 51.
[4]) النمل: 62.