المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 112- تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (112).

(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:215-216].

(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنّ عمرو بن الجموح الأنصاريّ كان شيخًا هِمّا (أي هرمًا) ذا مالٍ عظيمٍ، فقال: يا رسولَ الله؛ ماذا ننفقُ مِن أموالنا؟ وأينَ نضعُها؟ فنزلتِ الآية"( )، ولعلّ عمرًا كانَ واحدًا ممّن سأَلَ، فإنّ المتبادرَ مِن ظاهرِ (يَسْأَلُونَكَ) تكرر السؤالِ، فقد كانَ لأهلِ الجاهليةِ وجوهٌ في الإنفاق، لا يقرّها الإسلامُ، كانوا ينفقونَ في المفاخرةِ والمُنافرةِ، وهي أن يعقرَ هذا ويعقرَ هذا يتفاخرون، حتى يعجزَ أحدُهم، ويظهر عليه صاحبُهُ، فيسيرُ الناسُ بذكرِهِ، ولا يستفيدون من ذلك إلا الصّيتَ بين الناس، وكانوا ينفقون كذلك في الميسرِ، وعلى النّدامَى والأصحاب في الخمر، ومِن أجلِ ذلك احتاجُوا إلى السؤالِ، والسؤالُ - على ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما - وقع عن أمرين؛ عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم، وأين يضعونه. وتضمن قوله: (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الجواب على الأمرين . والخيرُ في (مِنْ خَيْرٍ) المالُ الطيبُ، أي: قيل لهم في الجواب عنِ الجزءِ الأولِ: إنّ الذي يُنفَق هو كلّ مالٍ طيبٍ حلال، وقوله: (فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) هو جواب الشقّ الثاني من السؤال، واللام في قوله: (للوالدَين) للاختصاص، أي: إن الأولى أن يختص بالإنفاق مَن ذُكر، وهم الوالدان والأقربون إلى آخرِه، وتقدم الكلام على الإنفاق على القراباتِ في قوله تعالى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ)( ).

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) دلت الآية على عموم الإنفاق مِن كلّ مالٍ حلالٍ، وهو الخير، وعلى أنّ الإنفاقَ محمودٌ كلّه، قليلُه وكثيرهُ، سواء في النفقةِ على القراباتِ أو في غيرها، فلا تحقرنّ فعلَ شيءٍ مِن الخيرِ مهما قلَّ، وقوله: (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) في هذا بشارةٌ لأهلِ الخيرِ بالجزاءِ العظيم، المؤكد على أبلغ وجه. (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) كتب عليكم: فُرضَ عليكم، والخطاب للمسلمين، و(الْقِتَالُ) يشملُ قتال العدو من المحاربين، وكذلك كلّ قتال مشروع، أمر به الله تعالى؛ كقتال البغاة، لنصرة الحق وإعلاء كلمة الدين (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم) الكرهُ الشديدُ الشاقّ على النّفس ، ووُصف بذلك لما فيه من التعرض للموت والجراح، وعدم الراحة، والمعنى: فُرض عليكم القتالُ حالةَ كونكم تكرهونَه؛ لما فيه من بذل الأرواح وفقدِ الأحبة، وما يتبع ذلك في حروب العصر، من أضرارٍ وخسائرَ في الأموال والأملاك، وهذا الكرهُ هو من الإحساس المغروزِ في الطبع، لا أحد يقدرُ على دفعه، يشترك فيه الشجاعُ والجبان، والضعيف والقوي، ولكن لا يتحمله على كره النفوس ويقوم بأعبائه إلّا ذوو النفوس الكبيرة، والهمم العظيمة؛ لما يحققه الصبرُ عليه مِن أهداف عاليةِ القَدر، عزيزةِ الشأن والأثر، ترْبو مصالحُها على ما يصيب النفوسَ من آلامه وأوضاره. ولا يتنافى كره النفوس له في الطبع مع ما وَعد الله تعالى به مِن الجنة، ورتّب عليه من الأجورِ، لمن يقاتل في سبيله لإعلاء كلمته، مُقبلا غير مدبر؛ لأن تحمل القيام بما تكرهه النفس مرضاةً لله تعالى، هو عينُ الصبر على الابتلاء، الذي جزاؤه جنات الله ورضوانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)( ).

(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) رفقًا بالعباد - بعد أن فرضَ اللهُ عليهم القتال، وهم يكرهونه - بيَّن لهم الحكمةَ من ذلك تلطفًا بهم؛ حتى يهوّن أمره عليهم، والله تبارك وتعالى غنيٌّ، لا يحتاج إلى إرضاء أحد، يأمرُ فيطاع، لكن من أسمائه الحسنى سبحانه اللطيف، يبين بلطفهِ الحِكمَ والغايات، تفضُّلا منه ومِنّة؛ لِـما في ذلك من المصالح العظيمة، الراجعة إلى المكلفين، في ازدياد الرغبة في الخير، والإقبال على الطاعات، والاستجابة لأوامر الله، والحرص على التمسكِ بها، وهذا مِن محاسن الشرع الحكيم، وقد بيّن سبحانه في هذا السياق، أنه قد يجعل عاقبة ما تكرهه النفوس خيرًا، وعاقبة ما تحبه شرًّا، والعبرة في كل ما يفعله العقلاء بالغايات والنتائج، فهي التي يحرص عليها أولو الألبابِ، فيتحمّل المريضُ مرارةَ الدواءِ لأنّ عاقبتها العافيةُ، ويترك المُجِدّ في طلب العلم لذيذَ الراحةِ وطيبَ المنامِ ومنادمةَ الأصحابِ، بالانقطاعِ للتحصيلِ، لأنّ عاقبتهُ التميزُ بين أقرانه، بشرف العلمِ، وعلوِّ القدر، ورفعةِ الشأنِ، بنفع المسلمين، وحاجة الناس إليه، وحرصِهم على القربِ منه، ويحصل له من الغبطة ما يحسده عليها الملوك. ومن آتاه الله حكمةً وعلما تسهلُ عليه مكابدةُ مشاقّ الطاعاتِ، والصبر عليها بمخالفةِ هوى النفسِ، لأنّ عاقبتَها الكرامةُ بمرضاة الله تعالى والجنة، وهكذا التكاليفُ كلها على خلاف ميل النفوس، وفيها فلاحُها، وما تهواه الطباعُ على خلاف الشرعِ كله محبوبٌ، وفيه هلاكها، قال صلى الله عليه وسلم: (حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ)( ).

(وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) خفايا الأمور وعاقبتُها غيبٌ، والغيب يعلمُه اللهُ، لا تعلمونَه أنتم، فإذا أطعتُم أمرَه حسنتْ لكم العاقبةُ، لأنّ أفعالَه سبحانهُ محكمة.

التبويبات الأساسية