المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 188- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 

 الحلقة (188)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)[آل عمران: 118].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً) البِطانة: أصلُها مِن البطنِ خلافُ الظهرِ، وبطانةُ الثوب: وجهُه مِن الدّاخلِ، وما فوق بطانته مِن الخارجِ يسمى ظِهارة، وبِطانة الرَّجلِ: مَن يُفضِي إليه بأسرارِه؛ لثقتِه به، وتطلقُ البِطانةُ على الواحدِ والجماعةِ، وتُجمعُ على بَطائِن، قال تعالى: (بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ)([1])، و(مِن دُونِكُم) مِن غيركم، أي مِن غيرِ المسلمين، أو  مِن المسلمينَ وعملُه في العداوة للدينِ عملُ غيرِ المسلمينَ؛ منحرفًا فاسدًا، خادمًا لأعداءِ اللهِ، منتهكًا لحرماتِ اللهِ.

(لَا يَألُونَكُم خَبَالًا)([2]) أي: لا يخافونَ الله، إذا اتخذتموهم بطانةً مستشارين لكم مِن خواصكم، مطلعين على أسراركم، لا يغيبون جهدًا في العمل على فشلكم، وغشكم، وإفسادِ أعمالكم، فالخبالُ: الاختِلالُ والفسادُ، ومنهُ المخبولُ، للّذي فسدَ عقلُه أو بدَنُه (وَدُّوا مَا عَنِتّم) مِن العَنت، وهو الضررُ الشديد والمشقة البالغة، أي: الغشّاشة مِن البِطانة يتمنون ويرغبون في إضراركم، والإشقاقِ عليكم بكلّ سبيل، فجملة وَدُّوا مَا عَنِتّم بيانٌ وتأكيدٌ لجملة لَا يَألُونَكُم خَبَالًا.

(قَدْ بَدَتِ البغضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) ظهرتْ منهم العداوةُ والكراهيةُ، ومِنْ أَفْواهِهِم: مِن فلتاتِ لِسانِهم، والجملة تعليلٌ للنهي عن اتخاذهم بطانةً؛ لا تتخذوهم بطانةً لأنهم يتمنونَ إضراركم (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) ما يضمرونه مِن الكره والعداوة أشدُّ مما يظهر منهم في فلتات لسانهم؛ لأنهم يدارُونكم ويسترونَ ما في نفوسهم من العداوةِ، حتى لا يفقدوا مكانتهم، التي مِن خلالها يصلُون منكم إلى ما يريدونَ مِن الإضرار، فاحذروا أنْ تتخذوهم بطانةً ومستشارين.

ثم تختم الآيات بما يقيم الحجة على كلّ مَن يغفلُ ولا يعتبر، فتخاطبُ أصحاب العقول: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أليس الواجب بعد هذا التفصيل والتوضيح لحالِ المخادعينَ، أن تكونَ لديكُم فطنةٌ وفراسة وتوسمٌ؟! تميّزونَ بهِ بينَ النصحِ والغشِّ، والخِداعِ والصدق، فلا تنبغي الغفلةُ لأحدٍ بعدَ هذا البيانِ الواضحِ، ولا تحل، فيمكن عدوّه منه – ويجعله ناصحًا وموضعًا لثقتِه – لا يفعل ذلك إلّا مَن تخلّى عن عقلِه، ووضعَ القفل على قلبه.

وفي الآيات وقفات غاية في الأهمية في حياة الأمة:

1 – نِدَاءٌ للمؤمِنينَ، ولكلّ مَن ولّاه اللهُ رعيّةً صغيرةً أو كبيرةً، ينهاهُم أن يتّخذُوا بطانةَ السوءِ والفسادِ حاشيةً لهم، ونصحاءَ يلِجُؤونَ إليهِم ويسمَعُونَ مِنهم، يُحذرُهم اللهُ أن ينخدِعُوا بهم، وبمَن يتظاهَرُ بالنصحِ وباطِنهُ الخُبث، فالنّاصحُ مستشارٌ، والمستشارُ مؤتَمَنٌ، والأمانَةُ أساسُها الاستقامَةُ والديانَةُ، والخوفُ مِن اللهِ، فمَن سهُل عليه أن يخونَ ويغشّ في أماناتِه مَع الله، كانت الخيانةُ والغشُّ أسهلَ عليه مع مَن دونَه، قال صلى الله عليه وسلم: (مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ؛ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى)([3]).

2 – تحذيرُ الحكام مِن المُنافقينَ الذين ليست لهم هويةٌ ولا قضيةٌ، وإنما هم خدامٌ لأعداءِ اللهِ، ولمن يدفعُ أكثر.

3 – وتحذيرهم كذلك من غيرِ المسلمين؛ لأنّهم لا يألونكم خبالًا، لا يُقصرُون جهدَهم في الفسادِ عليكم، وفي كلّ ما تسوؤُكم عاقبتُه، ولا يتردّدُون في إشغالِكم بما يشقّ عليكم، ويذهبُ قوتَكم، حتى لا تقومَ لكم ولا للحقّ الذي أنتُم عليه قائمةٌ، فإنّهم يتمنّون لكمُ العَنَت، وأن تقعُوا فيمَا لا تقدرونَ على دفعِه، ولا علَى الخلاصِ منهُ (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) وقد بانَت كراهيتُهم لكم فيما أبدتهُ البغضاءُ مِن أفواهِهم، وما ظهرَ مِن فلتاتِ لسانِهم، المعبّرة على التقليلِ مِن شأنِكم، وهوانِكم عليهم، والعداوة لكم، وإن حرصُوا أحيانًا على ألَّا يظهرَ ذلك منهم، حتّى لا ينكشفَ أمرُهم، ولا ينتهِي دورُهم، وعليكُم أن تعلَموا؛ أنّ ما تنطوِي عليهِ صدورُهم، وما تخفيهِ قلوبُهم مِن البغضاءِ والعداوة  لكم وللحق الذي أنتم عليه، أكبرُ ممّا يظهر في فلتاتِ لسانِهم، فما تُخفي صدورهم أكبر، فلا تُذلّوا أنفسَكُم تسترضُونَهم، فلَن يرضَوا عنكُم، والله ورسولُه أحقُّ أن تُرضُوهُ إن كُنْتُمْ مؤْمِنِين، واحذرُوا أنْ تنخدِعُوا بنُصحِ مَن ثبتَ خِداعُه منهم، وبغضُه لكم، ثم تختم الآيات بما يقيم الحجة على كل من يغفل ولا يعتبر، تخاطب أصحاب العقول: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أليس الواجب بعد هذا التفصيل والتوضيح لحالِ المخادعينَ، أن تكونَ لديكُم فطنةٌ وفراسة وتوسمٌ؟! تميّزونَ بهِ بينَ النصحِ والغشِّ، والخِداعِ والصدقِ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)([4])، فلا تحلّ الغفلةُ بأحدٍ بعدَ هذا البيانِ الواضحِ، ويمكِّنُ عدوّه منه – فيجعلُه ناصحًا وموضعًا لثقتِه – إلّا مَن تخلّى عن عقلِه، ووضعَ القفل على قلبهِ.

وهذه الآياتُ كذلك منهجٌ قويمٌ في تربية المؤمنِ على الفطنةِ والفراسة والتيقظ، وعلى التأمّلِ في الأسبابِ والمسبّبات، وأخذِ الحذرِ المشروعِ مع النصحاءِ، ومع الخصومِ على السواء، وفي تعليم الاستفادةِ مِن تجارِب الماضِي ودروسِ الحياة، والاعتبارِ، وفي الصحيحِ مِن قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِن جُحرٍ وَاحِدٍ مَرّتينِ)([5]).

 

 

[1]) الرحمن: 54.

[2]) يألون فِعلُهُ لازم؛ أَلَا يَأْلُو ألْوًا، على وزنِ غَزا يغْزُو غَزْوا، وبَدا يَبدو بَدْوا، وعدِّي إلى مفعولين لتضمينه معنى النقص والمنع.

[3]) البخاري: 7198.

[4]) الحجر:75.

[5]) البخاري: 6133، ومسلم: 2998.

التبويبات الأساسية