المنتخب من التفسير -الحلقة 270- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (270)

[النساء:171].

 

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا) [النساء:171].

النهي عن الغلوّ في هذه الآية، وإن كان أكثر ما ذكر فيها هو من غلو النصارى؛ فإنَّ النداءَ يشملهم ويشملُ اليهود أيضا؛ لقوله فيما بعد (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) فكلاهما في كلامه على الله جانَبَ الحقَّ، نُهوا جميعًا في هذا الخطابِ عن الغلوِّ في الدين، فكلٌ منهما غالَى في دينه، والغُلوُّ أصله مجاوزة الحد، ومنه غَلْوةُ السهم؛ أقصى مدى يصل إليه([1])، وغُلُوّ السعر: تجاوزه الحد المتعارفَ عليه، والغلوّ في الدين معناهُ مجاوزةُ الحد في التدينِ؛ بإفراطٍ ومبالغةٍ فيه، أو تفريطٍ وتهوينٍ مِن شأنِه، فالإفراطُ والمبالغةُ كقولِ النصارى: المسيحُ ابن الله، وقول اليهود: عزير ابنُ الله، وقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)([2])، وقولهم في تزكية أنفسهم: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً)([3])، والتفريط ككفرِ الفريقينِ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتحريفهم لكتبهم، وقولهم: نؤمنُ ببعض الكتَاب ونكفرُ ببعض، وقول اليهود عن مريم وابنها: (يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا)([4])، فكلٌّ من اليهود والنصارى غالَى في المسيح؛ النصارى أَفرَطوا، واليهود فَرَّطوا حتى رموه وأمَّه، وتعديةُ الفعل (تَقُولُواْ) بـ(عَلَى) تدل على أنَّ الغُلُوَّ في الدِّين منه الكذبُ على الله، وقولُ الباطلِ وإنْ جَعَله أصحابه عبادةً، وتمسكًا بالدِّين؛ فإنَّ (عَلَى) بعد القول تدلُّ على أن ما يقالُ على مدخولها كذبٌ، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)([5])، وقولُه (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رسول الله) ردٌّ على النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، وإنه ثالثُ ثلاثةٍ، أي جزءٌ من ثلاثة أجزاء كما يأتي، تعالى الله عما يقول الظالمون عُلوًّا كبيرًا، وفيه تنزيهٌ لله عن الصاحبة والولد، ولما كان هذا الانحرافُ إنما نشأ من غلوهم في المسيح؛ لكونه خُلق من غير أبٍ، بَيَّن الله لهم ما هو الحق في المسيح عليه الصلاة والسلام، فوصفَهُ اللهُ هنا بأوصافٍ أربعة، تَدحضُ باطلهم، وذكرَها بصيغة الحصر (إِنَّمَا) وهو حصرٌ إضافيٌّ من قَصر الموصوف على الصفة، أي قصر المسيح عليه السلام على هذه الصفات الأربع دون غيرها، مِن وصفِهِ بالألوهية وما شابه ذلك من الشركيات، فالمسيح هو (ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) فليس هو ابن الله، ولا هو الله، فالله لا يُرسل إلى خلقِه إلهًا مثله (وَكَلِمَتُهُ) تسميته كلمة وإضافته إلى الله؛ لأنه خُلق بمحضِ الكلمة، في قوله للشيءِ كن فيكون، دون وجودِ الواسطة المعتادة في التوالدِ، وجملة (أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) حاليةٌ، بتقدير: حالة كونِ اللهِ قد أوصلَ إليها هذه الكلمة، كلمةَ القدرة، ووجهَها إليها، وتعلقتْ بها، وقوله (وَرُوحٌ مِّنْهُ) أي هو ذو روحٍ من الأرواحِ التي خلقَها الله كسائر خلقِه، وأصحابِ الأرواح الآخرين، فإنها كلها منه، واختلفَ خلقُ عيسى عنهم في شيءٍ واحدٍ، وهو أنه لم يكن خلقُه بالواسطة المعتادة، وهي التزاوجُ، واتصال الأب بالأم، وإنما كان خلقه معجزةً، على خلاف العادة، بأمرٍ من الله، أن قال له: كن، فكان، فقوله (مِنْهُ) أي خلقٌ من خَلقِه، ولما قال بعض النصارى إنّ (مِنْهُ) تدل على أن عيسى صلى الله عليه وسلم جزءٌ من الله، عارضه الواقدي رحمه الله تعالى بقوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)([6])، قال له: لو كان كذلك، لاقتضى أنّ جميع الموجودات جزءٌ منه، فسكتَ.

وإذ قد علمتم حقيقة الأمر في خلق عيسى صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد الله ورسوله، وبطلت تخيلاتكم، وغلوكم فيه (فَآمِنُواْ بِاللهِ) فالواجب عليكم أن تؤمنوا بالله الإيمانَ الصحيح، لا إيمانَ الشركِ والتثليثِ، وأن تؤمنُوا بجميع رسله، ومنهم خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) لا تقولوا بالتثليث كلامًا، ولا تعتقدوه إيمانًا، وخَص القول بالنهي في قوله (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) لأنهم يجعلونه شعارهم، كما هو المشاهدُ، يُشيرون به بأيديهم، ويتمتمونه بأفواهِهم، وهذا مِن الآية نصٌّ في أنّهم يقولون بآلهةٍ ثلاثة، وطوائفُهم مختلفون في هذا التثليث، فمنهم من يقول: الله وعيسَى ومريم، وإليه الإشارة في قوله تعالى: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ)([7]) أي مع الله، ومنهم من يقولُ بالأقانيم، وهو زعمُهم أنه تعالى جوهرٌ واحدٌ، لكنه ثلاثةُ أقانيم([8])، وهم أُقنوم الأب، وأُقنوم الابن، وأُقنوم روح القدس، فهو واحدٌ بالجوهر، مختلفٌ بالأقانيم، وفَصله بعضهم فقال: أقنومُ الأب الذاتُ، وأقنومُ الابن الكلمة، بمعنى العلم، تولدتْ مِن الأب، لا على سبيلِ التناسلِ، كتوليد ضياءِ الشمس، وأقنومُ روحِ القدس هو الحياة، فهي لم تزلْ فائضةً من الأب والابنِ، والاتحادية أو الحلولية منهم تقول: المسيحُ جوهر من جوهرين، وأُقنومٌ من أقنومين؛ اللاهوت، والناسوت، اللاهوت: الإله، والناسوت: الإنسان أو الجسد، ولما صُلب في زعمهم، صَعد اللاهوت، وبقي الناسوتُ الجسد، والنصارى اليوم عامّتهم لا يفهمون هذا التخريفَ، ولا يُحبّون الكلام فيه؛ لشعورهم بأنه متناقضٌ وغير مفهومٍ، ولذا تجدهم لا يطيقونَ الكلام في معنى التثليث؛ لأنهم يرونه خارجًا عن العقلانية، ويمكنُ تصنيفهم بأنهم لا دينيونَ، أقرب إلى المذهبِ الليبرالي منهم إلى النصارى أو أهلِ الكتاب.

وأكدَ النهي عن التثليث بالأمر بالانتهاء عنه في قوله (انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ) ليُجتنب بالكلية، وتأكد بمؤكدٍ ثالثٍ، وهو قوله (خَيْرًا لَّكُمْ) لأنه يتضمن وعيدًا بنزول الشرِّ بهم إن لم يكفّوا عن التثليث، ثم صرح لهم بالاعتقاد الصحيح الذي يجبُ أنْ يكونوا عليه في قوله (إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) وذَكَره بأداة الحصر: (إِنَّمَا)، وهو من قصر الموصوف وهو اللهُ، على الوحدانيةِ قصرًا إضافيًّا، بالإضافة إلى ما اعتقدوهُ من التثليث، وقوله (سُبْحَانَهُ) منصوبٌ على المصدر، بفعل مقدّر: سَبِّحوه سبحانًا، ومعناه: تَقدس وتَنزه عن أن يكونَ له ولدٌ؛ لأنَّ الولد دليلُ الافتقارِ والحاجةِ، وكيف يحتاجُ للولدِ مَن له مُلك السموات والأرض، وأمره فيهما إذا أرادَ شيئًا أن يقول له: كن، فيكون (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا) كافيًا لخلقهِ ومستغنيًا عنهم.

[1]) ينظر تهذيب اللغة، مادة (غلا): 8/168.

[2]) المائدة:18.

[3]) البقرة:80.

[4]) مريم:27.

[5]) آل عمران: 78.

[6]) الجاثية: 13.

[7]) المائدة: 116.

التبويبات الأساسية