بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (226)
(وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [النساء:24-25].
(وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ) قُرئت (أَحَلّ) بالبناء للفاعل، عطفًا على الفعل الذي نصب المصدر في قوله: (كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)، والتقدير: كتبَ اللهُ عليكم تحريمَ ما ذكر من المحرمات، وأحلَّ لكم ما وراء ذلك، فضمير الفاعل في (أَحَل) المسند للمعلوم، يعود على لفظ الجلالة؛ إظهارًا للمنّة، بخلاف التحريم في (حُرّمت) أسندَ للمفعول؛ لأنّ التحريمَ منعٌ، فليس مقامُه مقامَ امتنان.
وقُرئت (أُحِل) بالبناء للمفعول؛ عطفًا على المحرمات، أي: حُرمَت عليكم أمهاتُكم، وما عطفَ عليهن، وأٌحلّ لكم ما وراءَ ذلكم، أي: ما عداهُنَّ، فـ(مَا وَرَاء) معناها: غير وعَدَا ما ذُكر، وهو عمومٌ، يفيدُ شمولَ التحليل لسِوى ما ذكر في الآية من المحرمات، وخَصصتِ السنةُ هذا العموم، بتحريم باقي المحرماتِ من الرضاع، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)( )، وبتحريم أن تنكحَ المرأة على عمتِها أو خالتِها، فقد صح أن النبي : (نهى أَنْ تُنْكَحَ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا)( )، وقال: (فَإِنَّهُنَّ إِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ قَطَّعْنَ أَرْحَامَهُنَّ)( ).
(أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم) نصب المصدر المقدر على المفعول لأجله، والمعنى: أُحلت لكم النساء؛ توسعةً عليكم؛ لأجل أن تبتغوا وتطلبُوا النكاح، باذِلينَ أموالَكم بالمهور، وبالإنفاقِ عليهن (مُّحْصِنِينَ) حالةَ كونِكم محصنينَ طالبينَ العفة، و(غَيْرَ مُسَافِحِينَ) من السفّاح، وأصله: الصَّبُّ والإراقَة، ومنه الدمُ المسفوح، والمراد: الزنا؛ لأن الزاني يَصبّ في الزنا ماءَه، ولا غرضَ له غير ذلك، فالجملة منصوبة على الحال، أي: أن تطلبوا النكاح بأموالكم، حالة كونكم حريصين على أن يكونَ ذلك بالتزوج، أو ملك اليمين، بعيدينَ عن الزنا (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ) (مَا) موصولة، بمعنى (مَن) كناية عن النساء، واستعمال ما التي أصلها نكرة موصوفة؛ لأنه أريد الوصف بكون المبتغاة أنثى، لا نساء بأعينهنّ.
والاستمتاع: التمتعُ والانتفاعُ والتلذذُ، السين والتاء فيه للمبالغة والتأكيد، والباء في (به) للتعدية، والضمير يعود على (مَا) باعتبار لفظها، ومِن في (منهنَّ) بيانية، والضمير يعود على النساء (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) الأجور: المهور؛ لأن المهور في نظير الاستمتاع، فأشبهت الأجر (فَرِيضَةً) أي: مفروضًا مقدرًا من الله.
والمعنى: فاللاتي توصلتُم إلى التمتع بهن بعقد النكاح، فادفعوا إليهن المهور، ولا تخلُوا النكاح من المهر، فإنه فريضةٌ مِن الله، مقدرة بينكم، فالفرض بمعنى التقدير، كما في فريضة الميراث، فهي نصيب مقدّر من الله.
ولا يخرج عن هذا نكاحُ التفويض؛ لأن نكاح التفويض شرطُه ألَّا يتفق فيه الطرفان على إسقاط المهر، وإنما يوكل تقديره فيما بعد إلى ما تعارفُوا عليه.
(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) إذا فرضتُم المهورَ في عقد النكاح، ثم تراضيتُم بعد ذلك فيما بينكم على الزيادة عليه، أو على تَركِه، أو تركِ شيء منه، فلا حرجَ عليكم، ولا إثمَ في ذلك، كما قال تعالى: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)( ) (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) عَلِيمًا بما يُصلحُ عبادَه، حكيمًا فيما شرعه لهم.
(وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَنْ يَّنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) الطُّوْل بالضم ضدُّ القِصَر، وبالفتح وتسكين الواو: الفضلُ والغنى، والمحصنات: الحرائر؛ لمقابلته بـ(مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم)، سُميت بذلك لصونهنَّ مِن ذُل الرّق، ووَصْفُهنَّ بالمؤمناتِ جَرى مجرَى الغالب، وليس قيدًا، فلا مفهومَ له.
والمعنى: ومَن لم تكن له قدرة على أن ينكح الحرائر، لفقرِهِ وعجزِهِ عن دفع مهرهنّ؛ فله نكاحُ الإماءِ، شريطةَ أن تكنّ مِن المؤمنات( ).
ومعنى ذلك أنّ القادرَ على الحرةِ الكتابيةِ، كالقادر على الحرةِ المسلمة، لا تحلّ له الأَمَة، وهو ما عليه عامةُ الفقهاء (فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) الفاء واقعة في جواب الشرط، و(مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) هن الإماء (مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) مِن بيانية، والفتيات: جمع فتاة، يقال: فتاة وجارية للصغيرة من النساء، وفتى وغلام للصغير من الذكور، ووصف المؤمنات قيدٌ، لإخراج غير المؤمنات، فلا يحلّ الزواج بالأمَة الكتابيةِ عند جمهور أهلِ العلم، حتى مع العجزِ عن الحرائر؛ لاجتماعِ نقصِ الرِّقّ مع نقصِ الكُفر، واجتماعهما على الزوج لا يحتمل.
فالآية جعلت نكاح الأَمَة المؤمنة مشروطًا بعدم القدرة على نكاحِ الحرة، والعجزُ عن القدرةِ على الزوجة الثانيةِ أو الثالثةِ عند الحاجةِ إليها، كالعجز عن الزوجةِ الأولى؛ يبيحُ التزوّجَ بالأمَة، وهو قولُ مالكٍ وكثيرٍ من أهل العلم، وقال أبو حنيفة: وجودُ الزوجة الواحدةِ من الحرائر في العصمة طَوْلٌ، لا يحلُّ معه زواجُ الأمَة؛ لأنّ صاحبَه مع الواحدةِ يكونُ طالبًا للشهوة، خارجًا عن ضيقِ العَنَت، وقد دلتِ الآيةُ على أنّ نكاحَ الإماءِ استثناءٌ، وأنه غيرُ مرغّبٍ فيه، لا يحلّ إلّا مع العجز عن مهرِ الحرائر، وخوفِ الوقوعِ في الزنا؛ لِمَا في الزواج منهنّ من المهانةِ واسترقاقِ الولدِ؛ لأنّ الولدَ يتبعُ أباه في الدِّينِ والنسبِ، ويتبعُ أمّه في الرّقِّ والحريّة.