بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (134).
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:256].
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) الإكراه: الإجبار على فعل شيء مكروه، والدِّين هو الإسلام، أي لا إكراه على اعتناقِ الإسلام، بعد أن انتشر الدِّين واتسعت رقعته، وأُذن للمسلمين بالتعايش مع غير الحربيين من الكفار، في عقود الجزية والهدنة والاستئمان، والظاهر أن هذه الآية محكمة، نزلت متأخرة بعد الأمر بقتال المشركين على الدين في بدايات الدعوة في كلّ حال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)( )، واستمر ذلك إلى أن دانَت جزيرة العرب بالإسلام، ويَئس الشيطان أن يُعبد فيها، فبعد ذلك جاء النهي عن الإكراه على الدين، وأذن للكافر بالبقاء على دينه إذا قبل الجزية، أو استؤمن وأعطي العهد. لقد تنوعت آياتُ الأمر بالقتال بتنوع مراحل الدعوة، فمنها آيات تتعلق بقتال الدفع خاصة، كما في قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وقوله سبحانه: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) وهذ¬¬¬¬¬ه ليس فيها إكراهٌ على الإسلام، ولا تتعارض مع هذه الآية. ومنها آيات أمرت بالقتال المطلقِ في كلّ حال، دون غاية ينتهي إليها ولا قيدٍ، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)( ) وقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)( ) وعارضتها في الظاهر آية الجزيةِ، التي قيدت الأمر بالقتال بغايةٍ ينتهي معها، وهي إعطاء الجزية، قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)( )، والآية الأخرى التي أذنتْ بالصلحِ والمهادنةِ، في قوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)( ) فيحمل المطلق من هذه الآيات التي تأمر بالقتال من غير قيدٍ على المقيد منها، أي أنهم يقاتَلون ما لم يُعطوا الجزية، أو تعقدوا معهم الصلح والهدنة، فعلى هاتين الحالتين - قبول الجزية أو وقوع العهد والصلح - يحمل معنى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، ويرتفع ما يظهر من التعارض. النوع الثالث آياتٌ جاء الأمر فيها بالقتال مُغَيًّى بغايةٍ، هي: حتى لا تكون فتنة، كما في قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ) وهذه إذا أخذنا في الاعتبار أن الفتنة ليست مجرد الكفر فقط، وإنما كفرٌ مصحوب بفتنة المسلمين عن دينهم، ومنعهم من التمكين له، بالصدّ عنه والعدوان عليهم مِن أجلِه، وأن قتالهم ينتهي بانتهاء ذلك؛ لقوله بعده: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) ارتفعت معارضتها لآية: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)؛ لأن مَن قُوتل لصدِّه عن سبيل الله وعدوانه على المسلمين لم يقاتَل ليكرَه على الدين، وإنما قُوتل لكفِّ شرّه. فخلاصة ما أفادته آيات القتال هو: - الأمر بقتال المدافعة بالردِّ على العدوان، وهذا مشروعٌ قطعًا. - قتالُ مَن يريد أن يفتنَ المسلمين عن دينِهم بالصدِّ عن سبيلِ الله؛ وهذا أيضًا مشروعٌ؛ لأنه يدخلُ في قتالِ المدافعة. - قتال سائر الكفار، وهذا أيضا مشروعٌ، بشرطِ ألّا يكونَ هناك مانعٌ يمنع القتال؛ من عقد الجزية، أو المهادنة والعهد، أو الأمان، فمَن كان له واحد من هذه الثلاثة فلا يكره على الإسلام، وهذا هـو المعنِيّ بالنهي عن الإكراه في الدين. ومن المفسرين من يرى أن آية (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) خاصة بأهل الكتاب، وعليها جاء سبب نزول الآية؛ في رجل من الأنصار كان له ابن يهودي، أراد أن يكرهه على الإسلام، وشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، ومنهم على هذا مَن يرى أنها منسوخة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)( ).
(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) الرشدُ: الهُدى وكمال العقل، والغيّ مِن غوِي: هو الضلال والسفه، و(تَبَيَّنَ) تميّز، ولذلك عُديت بـ(مِنَ) لتضمينها معناها، والمعنى: قد تميز الإيمان من الكفر، والغواية من الرشد، بالأدلة والبراهين الواضحة، وأن الإيمان رشدٌ وخير وهداية، والكفر شرٌّ وسفه وضلالة (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) الطَّاغُوت: مبالغة من الطغيان، وهو عَلمٌ على كلّ ما يُعبد مِن دون الله، مِن الأصنام وغيره، وزيادة السين والتاء في (اسْتَمْسَكَ) للتأكيد والمبالغة، كالزيادة في استجاب واستكبر ونحوه، أي: مَن كفر بالطاغوت فقد تمسك بقوةٍ بالوحي وبالعروة الوثقى، كقوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)( ) (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) العروة: الحلقة يمسك بها الشيء، كحلقة الإناء، والحلقة في الحبل، والوثقى: الشديدة المتينة (لَا انْفِصَامَ لَهَا) لا انقطاع، وأصل الانفصام الحلّ وتفريقُ المشدود، والمعنى: فمن يكفر بكل ما يُعبد مِن دون الله، ويؤمن بدين الله دين التوحيد، فقد حقق لنفسه التمسك بالحقّ، والثبات على الإيمان، الذي ينجيه من مهاوي السقوط والردى، فحاله كحال من تمسك بعروة حبلٍ متينٍ، في اجتيازه من مكان إلى مكان، يخشى أن يهوي فيه (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنياتكم.