المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 89 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (89).

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة:168-170].

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) الخطاب للمشركين، حين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة، والأمر في (كُلُوا) للتقريع وتوبيخ المشركين على تحريم ما أحله الله (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) مِن للتبعيض، ظرف مستقر متعلق بكُلوا، أي: مِن بعض ما في الأرض (حَلَالًا) منصوب على الحال، والحلال ما أحله الله تعالى (طَيِّبًا) حال ثانٍ، والطيب ما تحبه النفوس وتستطيبه، وليس فيه ضرر، وهو مؤكِّد لقوله حَلالًا، لأنه بمعناه (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) خطوة جمعُ خطواتٍ بإسكان الطاء، وهو القياس في جمع مثله كشرفة وشرفات، وشفعة وشفعات، وهي قراءة الجمهور، وبضمها لاتباع ضمة الخاء - وقرئ بها - والخُطوة بضم الخاء: اسم لمسافة ما بين القدمين عند المشي، وبفتحها مصدر للمرة من الخطو، واتباعُ خطوات الشيطان؛ اتباع إغوائه وزخارفه وضلالته، واتباع طريقه فيما يزينه من الصدِّ عن سبيل الله، وعن اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وما يوسوسه من الآثام، والانسياق وراء الشبهات والشهوات، كل ذلك من اتباع خطواته، وتقدم في الاستعاذة الكلام على اسم (الشَّيْطَانِ)، و(ال) فيه إمَّا للجنس فيعم كل شيطان من إنس وجنّ، وإما للعهد فيختص بإبليس اللعين، أصل الشياطين ورأسهم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) لعل تأكيدَ الجملة بإنّ - مع أن عداوة الشيطان معروفة لكل أحد، لا تحتاج إلى تأكيد - لأمرين:

الأول: لأن (إنّ) بعد الأمر والنهي تقوم مقام فاء التفريع، فيكون ما بعدها في قوة التعليل للنهي قبلها، فيقع مع التأكيد موقعَه مِن القبول والامتثال.

الثاني: أكدت عداوة الشيطان مع العلم بها؛ لتهالك الناس على اتباعه، حتى كأنهم لا يعرفونها، فنُزل المخاطب بالتحذير منها منزلة المنكر، والمُبِينُ: البيِّن الواضحُ، الذي لا يحتاج إثبات عداوته إلى برهان.

 

 (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ) السُّوء بالضم: الاسم، وبالفتح المصدر بمعنى الضر، مِن ساءَه إذا أحزنه وأضرَّ به، والفحشاء من فحُشَ، إذا عظُم وتجاوزَ الحد، وأصل الفُحش قبح المنظر، ومعناه: ما تجاوز الحد في عيبه وإنكاره شرعًا وعرفًا، وكل ما نهت عنه الشريعة فهو مِن الفحشاء.

وما وردَ في القرآن من الفحشاء فإنه الزنى، إلّا في قوله: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)([1])، فمعناه: يأمركم بالبخل ومنع الزكاة.

وقوله: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ) كالدليل على النهي عن اتباع خطوات الشيطان، فهي تبين علة النهي، بأن مِن دواعي عداوته كون أوامرِه وتزيينه ووساوسه محصورةٌ ومقصورةٌ على كل ما هو سيئُ العاقبةِ، وضارٌّ لا نفعَ فيه، وعلى ما هو من الفحشاء والمنكرات الغليظة، التي يستحي الناس منها لقبحها.

 (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) عَطفَ على السوء والفحشاء - الذي يأمر به الشيطان - نوعًا آخرَ مِن أنواع السوءِ، أشدّ ضررًا، ذكره القرآن بخصوصهِ، وهو القول على الله بغير علم؛ لما فيه من النسبة إلى دين الله ما ليس منه، تخرصًا وكذبًا، كما فعل المشركون حين حرَّموا السائبة والبحيرة، التي أحلَّها الله، وحللوا الربا والميتة، وهما مما حرمه الله،  ومفعولُ تعلمون محذوف، أي: ما لا تعلمون حكمَه، وطريق معرفة الأحكام عند أهل العلم هي الوحيُ وما يستنبَط منه، عن طريق أصول الاجتهادِ، المستقرأةِ من أدلة الشريعة؛ كالإجماع والقياس ونحوه، وما يوجد في مصادر الفقه الإسلامي من الأحكام، التي قررها المجتهدون، بناء على دليل مستقرأ من الشريعة؛ كالقياس مثلا، جاز أن يقال عنه هو من دين الله ومن شرع الله، وأنه حكم شرعي؛ لأنهم لم يتلقّوه بغير علم، وإنما قالوا فيه على الله بما يعلمون أنه يُرضي الله، بحسب ما كُلفوا به، كما قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)([2])، ولا يقال هو رأي لهم، لا يختلف عن آراء غيرهم من عامة الناس، أو عن رجال القوانين الوضعية، كما أنه لا يقال لحكمٍ عُلم بالاستنباط: قالَه الله.

 (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ) هذا عطف على قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) على وجه الالتفات مِن الخطاب في قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا) إلى الغيبة في قوله: (وإِذَا قِيلَ لَهُمُ).

 (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) (بَلْ) للإضراب والإعراض عن سماع ما قيل لهم، (أَلْفَيْنَا) وجدنا، بعد أن نُهوا عن اتباع خطوات الشيطان، أخبر القرآن عن إعراضهم، وعدمِ انتفاعِهم بما نهاهم الله عنه، وأنهم إذا قيل لهم لا تتبعوا الشيطان، واتبِعوا ما أنزَل الله من البينات والهدى؛ أعرضوا عنادًا، دون حجة ولا برهان، واستسلموا لموروثهم القديم استسلامًا كاملا، بِلا إِعْمال عقلٍ، وقالوا لا نتبع إلا ما وجدنا عليه آباءنا مِن الشرك.

(أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) الهمزة للاستفهام، وفيه معنى الإنكار عليهم، لإلزامهم بالخطأ، والتعجب من حالهم، حيث لم يستعملوا عقولهم في اتباع آبائهم على ضلالاتهم، وهذا غاية الفساد في الالتزام، أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، والواو التي بعد الهمزة حالية عاطفة، إمّا على محذوف تقديره: يتبعونهم ولو كانوا لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، وإما على المذكور: (نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) ولو كان الحال أنهم لا يعقلون شيئًا (وَلَا يَهْتَدُونَ)، و(لَوْ) حرف شرط جوابه محذوف، تقديره: لو كان آباؤُهم لا يعقلون لاتبعوهم.

 

[1]) البقرة: 268.

[2]) النساء: 83. 

التبويبات الأساسية