بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (281)
[سورة المائدة:12-13].
وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسرَٰٓءِيلَ وَبَعَثنَا مِنۡهُمُ ٱثنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقرَضتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ (المائدة:12)
(وَبَعَثنَا مِنهُمُ ٱثنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗا) النقيب مِن نَقبَ، إذا حفرَ ثقبًا أو ممرًّا في حائط ونحوه، وهو العريف الذي يقوم بتدبير أمر الجماعة، يمثلهم ويتكلم باسمهم؛ لأنه ينقبُ عن أحوالهم، ويفتِّشها ويتعرَّفها، ومنه نقباء الأنصار، الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة الأولى، سنة تسعٍ من البعثة، وكانوا اثني عشر نقيبًا، وسبعين في البيعة الثانية، سنة ثلاث عشرة من البعثة، والنقيب أيضًا من يُجعل رأسًا لفرقةٍ من الجيش في قتالِ عدوهم، وهو المراد هنا، فقد اختارَ موسى عليه السلام – عندما أمره ربُّه بدخول أرض الكنعانيين في أريحا – اثني عشر رجلًا، كل واحدٍ كان نقيبًا على سِبْط من أسباطِ بني إسرائيل، والسبط فيهم كالقبيلة في غيرهم، فأخذ عليهم العهدَ والميثاقَ أن يَستطلِعوا أخبارَهم لقومهم، ولا يحدِّثوا قومَهم بالقوةِ التي يرونَ عليها الجبابرة الذين ذهبُوا لاستطلاعهم؛ حتى لا تضعفَ همةُ الإسرائيليين، ولكن نقباء بني إسرائيل نكثُوا ولم يُوفوا، وأخبَرُوا أنهم وجدوا قومًا جبابرةً، إلَّا اثنينِ من النقباءِ وفيَا بما عاهدَا (وَقَالَ ٱللَّهُ) لبني إسرائيل (إِنِّي مَعَكُمۡ) بالنصرة والتأييدِ، إن وفَّيتم بالعهدِ والميثاق، وهو المذكور في قوله (لَئِنۡ أَقَمتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ) وما عُطف عليه، فهو كقوله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)([1])، وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)([2])، فمَن وفّى بالعهد الذي أخذ عليه، من الإيمان وإقامة الدين؛ وفّى اللهُ له، ووفقَه لما يصلحُه.
ودلتِ الآيةُ على أنَّ الصلاةَ والزكاةَ مفروضتان على الإسرائيليين؛ لأنهما من الميثاق الذي أخذ عليهم.
واللام في قوله (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) موطئةٌ للقَسَم، داخلةٌ على قسمٍ محذوف، وجوابُ القسم محذوفٌ، دلتْ عليه جملة (لَأُكَفِّرَنَّ) والتقدير: لئن أقمتمُ الصلاةَ وآتيتم الزكاةَ فقد وفّيتم بالميثاق، وقوله (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي آمنتم برُسُلي ونصرتُموهم، وأصلُ التعزير مِن المنعِ والذبّ؛ لأنَّ مَن نصر أحدًا يذبُّ ويمنعُ عنه مَن أراده بسوء، أو مِن القوة؛ لأنَّ العزرَ كالأزْر، فمن عزرْتَه آزرْتَه وقويْته، وسمَّى الله صدقة التطوع والإحسانِ في وجوهِ الخيرِ والبرِّ إقراضًا لله، في قوله (وَأَقرَضتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا) واللهُ غنيٌّ عن الإقراضِ وعن عبادِه، لكنه لما كانَ يكافئُ على الإحسانِ، ويردُّه لصاحبه مضاعفًا، سُمّي قرضًا، حتّى كأنّ اللهَ التزمَ له بالعوضِ، كما يلتزمُ المقترض، والله لا يجبُ عليه شيءٌ، ولكن ترغيبًا في الخير، وتشريفًا لأصحابهِ بهذه النسبة، في صورةِ من يقدم مالَه قرضًا لله، والفاء في قوله (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ) للفصيحة، أي: إذا علمتم ذلك، فمَن كفر منكم بعدَ هذا البيان، وما أخذ عليكم من الميثاق، أو استمرَّ على كفرهِ، فقد تأكدَ انحرافُه عن الطريقِ الواضح السويّ، وضلَّ ضلالًا بعيدًا، ولم يبقَ له عذرٌ، والكفرُ كلهُ ضلالٌ، إلّا أنّ مَن كفرَ قبل البيانِ، ليسَ كمَن كفرَ بعد البيانِ الواضح والبرهان، فهذا أشدُّ عتوًّا وعنادًا، لأنه يرى طريقَ النجاة واضحًا ويتنكَّبُه.
فَبِمَا نَقضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٖ مِّنهُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنهُمۡ فَٱعفُ عَنهُمۡ وَٱصفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلمُحسِنِينَ (المائدة:13)
الباء في (فَبِمَا نَقْضِهِمْ) للسببية، و(مَا) زائدة، لتأكيد أنّ ما حلَّ بهم من اللعنة والطرد من رحمة اللهِ وقسوةِ قلوبهم، سببُه نقضُ العهدِ والميثاق الذي أُخذ عليهم بالإيمانِ وإقامةِ الدين، وأصلُ القسوةِ الصلابةُ واليُبسُ، وهي هنا بمعنى عدمِ تأثرِ القلوبِ بالتذكيرِ والموعظة، وعدم قَبولِ الحق، وجملة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) حاليةٌ من الضمير المنصوب في (لَعَنَّٰهُمْ) أي استَحقوا ما استحقُّوا من اللعنةِ وقسوةِ القلوب، حالةَ كونهم يحرفونَ الكلمَ عن مواضعه، والكلم الذي حرَّفوه هو كلام الوحيِ في التوراة، وتحريفُه منهم على وجوه، وهي: تأويلُه وحملُ معانيه على أهوائهم وما تحبُّه أنفسُهم، وكذلك اشتراؤهم به ثمنًا قليلًا، يأخذونَ به عرَضًا من الدنيا، ولا يبيِّنونه، فيكتمونَ ما يريدُ أحبارُهم إخفاءَه من الأحكام عن العامة، وكذلك إخفاء ما يدينُهم في نصوصِ التوراة، مما يلزمُهُم باتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، الذي بُشروا به في كتبهم، كلّ ذلك من تحريفِهم الكلم عن مواضعه، وجملة (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) معطوفة على (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) والحظ: النصيب، وتنكيرُه للتعظيم، أي: وتَرَكُوا قدرًا وحظًّا كبيرًا من دينهم الذي ذكروا به؛ فأهمَلوه، وهو ما جاءهم مِن أحكام شريعتهم، ليعملوا به، فنسيانُهم لحظٍّ وافرٍ من دينهم وتركُهم له، سببُه نقضُهم الميثاقَ، ويستفادُ منه أنَّ الوقوعَ في المعاصي يُنسي العلمَ النافع، فاللعنُ والنسيان كلاهُما عقوبةٌ لنقضِ الميثاق، عن ابن مسعود قال: “قد ينسى المرءُ بعضَ العلمِ بالمعصية، وتلا هذه الآية”.
ثم قال اللهُ مخاطبًا نبيه: علمُك واطلاعُك على خيانةِ اليهود لا يتوقفُ، فهو مستمرٌّ متجددٌ باستمرارِ تجددِ خياناتِهم، و(خَائِنَةٍ) يصحُّ أن يكونَ مصدرًا بمعنى الخيانة، كالكاذبةِ والعاقبة، ويصحُّ أن يكونَ اسم فاعل صفة لمحذوف، بمعنى طائفة خائنة منهم، واستُثني قليل منهم، لم ينقضُوا العهدَ والميثاق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فنجاهم الله مما وقعَ بمن نقضوا الميثاق (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) أُمرَ صلى الله عليه وسلم بالعفوِ والصفح عنهم، والعفوُ والصفحُ على المسيء إحسانٌ، ولذلك قال (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وهذا فيما أساؤُوا به إليه صلى الله عليه وسلم في شخصِهِ، وكذلكَ كان هو صلى الله عليه وسلم عفوًّا رحيمًا، أمّا فيما يتعلقُ بعدائهم للدينِ، وكيدهم العامّ للإسلام والمسلمين؛ فقد قال الله تعالى عنه: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)([3]).
[1]) محمد:7.
[2]) البقرة:40.
[3]) التوبة: 29.