المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 33 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (33).

 

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

 

كرر الأمر بالهبوط مرةً ثانية، بعدَ أنْ أمرَ به في الآية السابقةِ، وهذا الأمرُ الثاني يمكن أن يكون هو عين الأول، وأعيد ربطًا لنظم الكلام، وذلك لطول الفصل بين ما ترتب على الهبوط الأول، مِن تقريرِ العداوة بين الشيطانِ والإنسانِ، ومِن إتيان الهدى لآدم وَذُرِّيَّتِهِ، فقد طال الفصل بين الأمر بالهبوط الأول والهبوطِ الثاني بجملٍ متعددةٍ، حسُنَ إعادةُ الرابط معها، وهو (اهْبِطُوا)، ويمكن أن يكون الأمر الثاني بالهبوط غير الأول؛ ليس تأكيدا وتكرارًا للأول، بل للتأسيس، وإرادة معنًى جديد، حتى لا يتبادر مِن قبول التوبة مِن آدم أنّه حصل له الرّضى ببقائه في الجنة، فتوجّهَ إليه الأمرُ بالهبوط مرةً أخرَى، بعدَ قبولِ التوبة.

ويستفادُ منه على هذا المعنى في الإصلاحِ والتربية؛ أنّ العفوَ على المذنبِ والجاني ينبغي أن يقتصر على ترك القصاص منه، لمن أراد أن يعفو، دون التساهل معه في إهمال ما يجعله يحسّ بالذنب، ويذكِّرُه بجنايتِه، ويُرِيهِ أثرَ خطئِهِ، بتحميلِه عناء إصلاح ما أفسده؛ لأن التساهل مع المخطِئِ بالكليّةِ فَسَادٌ، ينسيهِ ذنبه، بل يُجرِّئُه على التهاونِ في المستقبل على مثله، وهو ما يُستفادُ أيضًا مِن حكمِ الله تعالَى في المخطئِ، أنّه رفعَ الإثمَ عنه، ولم يُعفِهِ مِن كل شيءٍ، بل ألزمَهُ الكفارة، حتى يَحسبَ للتفريط مرةً أخرى حسابَه، فما مِن خطأ - في الغالبِ - إلا ووراءه تقصيرٌ وتفريط.

(جَمِيعًا): حالٌ، أي: اهبطوا مجتمعين.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى): الخطاب (يَأْتِيَنَّكُمْ) لآدم وذريته، وإمّا شرطية، مركبة مِن إن الشرطيةِ، وما الزائدة للتأكيد، وفعل شرطها (يَأْتِيَنَّكُمْ) لا ينفك أيضًا عن نون التوكيدِ، فدلت الآية على أن إتيان الهدى، وهو إرسال الرسل، ونحوه مِن أنواعِ الهدى؛ مُحققٌ، ومؤكدٌ بمؤكِّدين، والاحتمال المستفادُ من الشرط، إنّما هو في حصولِ الجوابِ، وهو اتباعُ الهدى، لا في إتيان الهُدى مِن الله، فإن قيلَ: الجوابُ، وهو اتباعُ الهدى، لا يتحققُ إلّا بتحققِ الشرطِ، وهو إتيان الهدى، المتعلقِ بإن الشرطية، وهذا يقتضي احتمال وقوع الهدى أيضًا لا تحققَهُ، مع أنّه واقعٌ، أُجيبَ بأن الاحتمال الذي دلت عليه إن الشرطيةُ في وقوع الهدى، يجري مجرَى احتمالِ (لعل)، في عموم خطابات الباري، التي تقتضي تحققَ الوقوعِ.

و(هُدًى) نكرةٌ في سياق الشرط، تعمُّ كلّ هدى يأتي من عند الله؛ بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والأمر بالتوحيد والشرائع، وعلى رأسِها الإسلامُ دينُ الأنبياء.

(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ): جملة (مَن) شرطيةٌ، وقعتْ جوابًا للشرط السابق، في قوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ)، وأعيدَ (هُدَايَ) اسمًا ظاهرًا، بدلَ إعادتِه مضمرا، كأن يقال (فمن اتبعه) مثلًا؛ وذلك استحضارًا لاسم الهُدَى، المحبّبِ للقلوبِ، حتى يزدادَ مثولًا، وثباتًا في الأذهان، ويزدادَ التعلقُ به.

(فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)؛ الخوفُ: الفزعُ، والخوف دائمًا يكونُ مِن المستقبلِ، لا مِن الماضي، ونفيُه في الآيةِ عن المتبعين يعمُّ الدنيا والآخرة، والحزنُ: خلافُ السرور، والحزن يكون على الماضي، فمن تبع هدى الله أمن خوفَ المستقبل في الدارين، وأمنَ ندم ما مضى من أمره، فلا يحصل له ما يندم عليه، فهو على بينةٍ مِن ربِّه؛ كما قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[1]، وكان مقتضى المتبادر مِن تعلقِ الحزنِ بالماضي أن يُقال: لا حزن عليهم؛ لأنه أمر مضى، وليس فيه تجددٌ يقتضي استعمال المضارع (يَحْزَنُونَ)، وعكس ذلك في الخوف المتعلق بالمستقبل، بأن يُقال عنه: ولا يَخَافون؛ لأنّ الفعلَ يدلُّ على الاستقبال والتجدّدِ، ولعل النكتة فيهما - على خلافِ المتبادرِ - أنّ تَذكُّرَ الحزن الذي يقع في الماضي هو الذي يتكرر استحضارُه عادةً، ويتجدد اغتمامُ النفس وهمُّها به، فحسن نفيه بصيغةِ المضارع، التي تنفي تجدّدَهُ عليهم، وليس كذلك الخوفُ المتعلق بالمستقبل، فاكتفي فيهِ بنفيِ وقوعه لهم.  

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): وُصفوا بالتكذيبِ بعد الكفرِ؛ ليدلَّ على أنّ كفرهم كفرُ شرك باللهِ، لا كفر نعمة.

(بِآيَاتِنَا)؛ الآياتُ: واحدتُها آية، أصلُها العلامةُ على الشيءِ، كالعلامة على الطريق ونحوه، ومن معانيها: الحُجةُ والبرهانُ والمعجزة، سواء كانت الآية والحجّةُ كونيةً، أو قرآنية؛ لأنّ كلّا منها علامة على الحق، وطريقٌ للهدى.

فمِن الآياتِ الكونية قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)[2]، ومِن الآياتِ القرآنيةِ قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)[3]، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (يَا عُمَرُ؛ أَلاَ تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ)[4].

ومَن ذُكر مِن الكَفَرة كذّبوا بالآياتِ المعجزةِ كلّها؛ القرآنيةِ، والكونيةِ، الدالّةِ على إثباتِ الخالقِ ووحدانيتهِ، قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[5]، (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)[6].

(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ): الصحبةُ؛ الاقترانُ بالشيءِ على وجهٍ مِن الوجوهِ، فإن كانت بخلطة وملازمة فهي الصحبةُ الكاملةُ الملازمةُ؛ كما هُنا، فقد دلّت الآية على أنّ أهلَ الكفر والتكذيبِ هم أهلُ النارِ، المُلازمونَ لها، لا ينفكّونَ عنها، ولا تنفَكّ عنهم، وهم أهلُ الخوفِ والحزنِ، عكسُ الفريقِ الأولِ، مَن تبِعوا الهُدى، فهم أصحابُ الخلودِ في الجنّة، ولا خوفٌ عليهِم ولا هم يحزَنُون، ففي الكلامِ مقابلةٌ بالاكتفاءِ، أي: ما يذكرُ في موضعٍ من الجملة يُحذفُ مِن موضعٍ آخرَ؛ لوضُوحهِ، حتى لا يقعَ التكرارُ في الكلام، فما لم يُذكَر في الأولى مِن الخلودِ في الجنةِ لمن اتبع الهدى، دلَّ عليهِ الثانِي، وهو خلودُ الكافرين في النار، وما لم يُذكَر في الثانِي من الخوفِ والحزنِ للكافرين، دلَّ عليه الأوّل، بالمقابلةِ مِن نفيِ الخوفِ والحزنِ عن المؤمنينَ.

 


[1] [طه:123].

[2] [فصلت:37].

[3] [آل عمران:7].

[4] [مسلم:3035].

[5] [الذاريات:21].

[6] [فصلت:37].

التبويبات الأساسية