بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
- الحلقة (120).
(لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة:226-228].
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) أي يحلفون على هجران المرأة في الفراش، و(مِنْ نِسَائِهِمْ) هن زوجاتهم، والإيلاء في اللغة معناه: الحلفُ مطلقًا، على الزوجة أو على غيرها، والإيلاء في اصطلاح الفقهاء: حلف الزوج على ترك الجماع أزيد من أربعة أشهر، وكان الرجل في الجاهلية عندما لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها لئلا يتزوجها غيره، كان يحلف ألَّا يقربها السنة والسنتين، للإضرار بها، ويحلف على ذلك؛ لئلا يعود إليها إذا حصل له شيءٌ من الندم، وهو من الاعتداء والظلم البيِّن، وتمادى الناس على ذلك في الإسلام، فنزل القرآن لعلاجه، ورفع الضرر عن المرأة بوضع قانون له، كما ذكرت الآية (تَرَبُّصُ) التربص أن يُنتظر الزوج الحالف ليفيء ويرجع إلى زوجته، ويكفر عن يمينه، أو يقع عليه الطلاق، واللام في قوله (لِلَّذِينَ) للتوسعة بالإذن في انتظاره مدة الأجل، إن كان في ذلك مصلحة، بمعنى أن التربص والانتظار من الزوج إلى نهاية الأربعة الأشهر - التي هي أقصى المدة المحددة للإيلاء - ليس لازمًا ولا واجبًا، بل للزوج أن يفيء ويرجع إلى أهله قبل ذلك، ويكفر عن يمينه (فَإِنْ فَاءُوا) ورجعوا إلى المعاشرة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: فإن رجعوا إلى المعاشرة وحنثوا في اليمين فحنثهم مغفور بالتكفير عنها، فالله يقبل توبة التائبين، وفي الآية ما يشير إلى أن الإيلاء بنية الإضرار حرامٌ، لكنه يجوز للتأديب والإصلاح، وقد آلَى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا حين أغضبنه. (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ) أي: إن لم يفيؤوا في نهاية الأربعة الأشهر، على التمادي على ما حلفوا عليه، من الإضرار بترك المعاشرة (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فقد لزم الطلاق، ووقع عليهم بمجرد انقضاء المدة، دون حاجة إلى إنشاء الطلاق، على ما عليه بعض أهل العلم، ومنهم الحنفية، وذلك بحملِ الفاءِ في قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) على التفريعِ المرتبِ على ما ذكره الشارع مِن تحديدِ المدة، أي: يتفرع ويترتب على المدة في نهايتها؛ إمّا الفيء وإما الطلاق، دون حاجة إلى شيء آخر. وعند فريق آخر مِن الفقهاء، ومنهم مالك والشَّافعيُّ، لا يقع الطلاق تلقائيا بانتهاء المدة، وإنما يوقف الزوجُ بعد انقضائها، ويأمره القاضي؛ إما أن يطلق، وإما أن يرجع إلى أهله، وإذا لم يُطلق طلق عليه جبرًا، ولا يسمح له بالتمادي على يمينه، وعلى هذا تكون الفاء في قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) للتعقيب، أي: عقب المدة المذكورة يكون هناك شأن آخر للزوج بالتوقيف، ليُنظر في أمره، وقوله: (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يرجح القولَ الثاني؛ لأنه يدل على أن هناك كلامًا مسموعًا، يسمعه الله من الزوج إذا طلقَ، أو من القاضي إذا طلق عليه، كما قال الله تعالى في الظهار: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)( ).
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) المطَلَّقات جمعٌ يفيد استغراق عموم جميع المطلَّقات، فيدل على أن كل مطلقة عدتها ثلاثة قروء، لكن هذا العموم خُصص بنصوص أخرى، خُصّت منه المطلقاتُ قبل الدخولِ؛ لأنّه لا عدةَ عليهنّ أصلا؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)( ). وخصت منه المطلقةُ الحاملُ، فعدتُها وضعُ حملِها؛ لقوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، وخُصت المطلقةُ التي لا تحيضُ لصغرٍ أو كبر سنّ، فعدتُها ثلاثةُ أشهر؛ لقوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)( ). وقوله: (يَتَرَبَّصْنَ) التربصُ الانتظار، أي: ينتظرن مدة ثلاثة أشهر، وذُكر قوله (بِأَنْفُسِهِنَّ) مع الأمر بالتربصِ، للحثّ على كف النفسِ وتطلّعها، فإن نفوسَ النساء تتطلع إلى الزواج، إذا حصل الفراقُ، ولذا لم تُذكر الأنفسُ مع ما تقدمَ في تربصِ الإيلاء، لعدم حصولِ فرقةٍ في الإيلاءِ (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) القرءُ يطلق على الطهرِ وعلى الحيضِ، فهو اسم مشترك بينهما، فمَن حمله من الفقهاء على الطهرِ قال: العدةُ ثلاثة أطهارٍ، أولُها الطهرُ الذي طُلقت فيه المرأة، ولو في آخر يوم منه، وتنهي العدة بانقضاءِ الطهرِ الثالثِ، ورؤيةِ الدم بعده، وهو مذهبُ مالك، ومَن قال القرء الحيض، قال: العدةُ ثلاث حيضات، يكون أولُها الحيضة التي تلي طهرَ الطلاق، وآخرها مجيئ الحيضة التي تلي الطهرَ الثالث، فتنقضي العدة بالدخول في الحيضة التي بعد الطهر الثالث، فتكونُ العدة بالحيضاتِ أطولَ منها بالأطهار (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) هذا نصٌّ في تحريمِ كتمان المرأة شيئا يتعلق بعدتها، فلا يحل للنساء أَنْ يَكْتُمْنَ الحالةَ التي هن عليها مما خَلَقَ الله مِن الدمِ والولدِ فِي أَرْحَامِهِنَّ، وهو أمرٌ لا يُعلم إلا مِن جهتهنَّ، فهنَّ مؤتمناتٌ عليه ما أشبهَ قولُهن الصدقَ، وكتمانُهن له من الضررِ المحرَّم؛ لِمَا يترتب عليه مِن تزوج المرأة برجل آخر، ومِن التعدي على حقِّ الزوجِ في الترجيعِ وغيرهِ، وعلى حقِّ الله تعالى بعصيانِ أمرِه (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هذا الشرطُ تهديدٌ وتخويفٌ، بأن كتمانَ حال ما في الأرحامِ مِن دم الحيضة أو الحملِ، منافٍ لكمالِ الإيمان، وليس الشرطُ (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ) قيدًا ينتفي معه إيمانُ مَن كتَمتْ.