المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (317)
[سورة الأنعام:13-18]
(وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ)(13)
أي أن لِلَّه ملكَ وحكمَ وتدبير ما في السموات والأرض، وله ما سكن واستقر، وما مِن شأنه أَن يأوي إلى مكان يؤويه، وله ما تحرك، وما سكن ولم يتحرك، كل ذلك في ملكه وقبضته.
فسكن في قوله (وَلَهُ مَا سَكَنَ) إما من السُّكنَى في المكان، أي كل من أوى إلى مسكَنٍ من أجناس المخلوقات مملوك له، أو سَكنَ مِن السكون ضدّ الحركة، وعلى هذا فالمعنى أن له كلا من الساكن والمتحرك في الكون، واكتُفي بأحد المتقابلين عن الآخر لدلالته عليه.
وقوله بعد ذلك (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) يفيد إحاطة ملكه أيضًا بكل الأزمنة وما احتوته، كما أن قوله (مَا سَكَنَ) يفيد إحاطته بكل الأمكنة وما احتوته، وقوله (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) صيغة مبالغة من السمع والعلم، يسمع كل المسموعات، ويعلم كل المعلومات، عن الساكن من الموجودات والمتحرك، ما ظهر منها وما خفي.
(قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ يُطۡعِمُ وَلَا يُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ)(14)
كان المشركون ربما طمِعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم؛ لما يرونه فيه من اللين والرحمة، فردّ الله عليهم على لسان نبيه منكرا قولهم: أغير الله أتخذ معبودا وما جئتكم إلا بتوحيد الله وعبادته وإبطال ما أنتم عليه من الشرك؟ هذا لا يكون.
فالولي في قوله (أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي معبودًا، والولي اسم من أسماء الله، ومعناه الناصر، والاستفهام في قوله (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) إنكاري، وقدم المفعول (أَغَيْرَ اللهِ) المتصل بهمزة الاستفهام على الفعل؛ لأنه المقصود بالإنكار، فإن الإنكار متّجه إلى غير الله المتَّخَذ وليا، لا على اتخاذ ولي مطلق، وجملة (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) صفة أو بدل من اسم الجلالة في قوله (أَغَيْرَ اللهِ) بمعنى مبدع خلقهما، وأصلُ الفَطر الشق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “كُنْتُ لا أَدْرِي، مَا فَاطِرُ السَّمَوَاتِ، حَتَّى أتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، أَنَا ابْتَدَأْتُهَا”([1]).
وجملة (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) حالية، أي: أيُقبل أن يُعبد غير الله والحال أن الله هو الذي يُطعِم ويَرزق، فكل الرزق والنفع منه، يُنبت الزرع، و يُخرج لكم الطعام من الأرض، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَءَیۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ﴾([2])، فالخلق جميعًا محتاجون إليه، وهو لا يحتاج إلى غيره، ﴿مَاۤ أُرِیدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقࣲ وَمَاۤ أُرِیدُ أَن یُطۡعِمُونِ﴾([3])، وعبر عن الرزق بالطعام؛ لأنه المقصود الأغلب من الرزق.
وقوله (قل إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أمرٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمكذبين: إنه أمر أن يكون أوّل من أسلم، فهو أوّل من أسلم؛ لأنّ أصل الدين جاء منه، فالمسلمون في هذه الأمة العاملون بالشريعة هو أوَّلُهم.
وكذلك الإسلام بمعناه العام، و هو الانقياد والاستسلام لله وتوحيده وإفراده بالعبادة -الذي هو دين الأنبياء جميعا- النبي صلى الله عليه وسلم فيه مقدمٌ على غيره، فأوليَّتهُ فيه أوَّليةُ تفضيل وإمامة، وأمته تبعٌ له، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخِرون الأوَّلون يومَ القيامة)([4])، وجملة (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) نهي عن الشرك مؤكدٌ بنون التوكيد، والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو متوجّه لكل من يقفُ عليه، لا لخصوصِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصومٌ عن الشرك.
(قُلۡ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ مَّن يُصۡرَفۡ عَنۡهُ يَوۡمَئِذٖ فَقَدۡ رَحِمَهُۥۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡمُبِينُ)(15-16)
المعصية في قوله (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بمعنى الشرك، بقرينة النهي المتقدم، وفي ذكر اسم الرب في قوله (عَصَيْتُ رَبِّي) تعريض بزيادة قبح شركهم، حيث أشركوا بمن هو ربٌّ لهم، ومتوليهم بالعناية والرعاية، ووصف اليوم الذي فيه العذاب بالـ(عَظِيمٍ) مستلزم لهول العذاب وشدته، وهذا القول (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد به على المشركين، تيئيسًا لأطماعهم أن يتبع دينهم، كما تقدم في سبب النزول، والإخبار بالخوف من العصيان يتضمن الوعيد على الشرك والوعد بالرحمة، لمن عصمه الله تعالى، وجملة (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) صفة لقوله (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهي جملة شرطية.
وكان صرف العذاب فوزًا مبينًا؛ لأن الوقت الذي يصرف فيه العذاب يكون نعيم الجنة، ليس بينهما وقت، قال تعالى: ﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَ﴾([5]).
والضمير في (عَنْهُ) للعذاب، وفي (رَحِمَهُ) ضميران؛ ضمير الفاعل المستتر فاعل الرحمة هو الله، والهاء ضمير المفعول للمرحوم يعود على (مَنْ)، وهم مَن صرف عنهم العذاب، والإشارة في (ذلكَ الفوزُ المبينُ) تعود إلى الصرف المفهوم من قوله (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ).
(وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ)(17)
الخطاب في (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنّ عدم استجابته للمشركين في الرجوع عن دينه حملهم على أن يناصبوه العداء، ويكيدُوا لهُ كلَّ الكيد، ويؤذوهُ بصنوف الأذى والضُّرّ، قال تعالى: ﴿وَإِن یَكَادُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَیُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُوا۟ ٱلذِّكۡرَ وَیَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونࣱ﴾([6])، وقال تعالى: ﴿یَكَادُونَ یَسۡطُونَ بِٱلَّذِینَ یَتۡلُونَ عَلَیۡهِمۡ ءَایَٰتِنَا﴾([7])، فجاءت الآية (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم، تثبيتًا له وتهوينًا من شأنهم، وحماية له بأنهم لن يضروه؛ لأن الضر والنفع كله بإذن الله، فلا يقدرون بذاتهم على رفعه أو منعه، وقررت الآية قاعدة عامة في الضر والنفع في عقيدة المسلمين، بأن مرجعه جميعا إلى الله.
وفيها أيضا توهينٌ لكَيدِ المشركين، وأنهم لا قدرة لهم على أن يصلُوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسوء، كما أنها تتضمن تحديًا لهم ولكل الملاحدة والماديين ومعبوداتهم، التي يجعلون لها ضرا ونفعا، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون في آلهتهم نفعا، وأنهم شفعاء لهم عند الله، والآية قاعدة عامة في عقيدة المؤمنين؛ أن كل ما يصيب العباد لا يقع إلا بإذن الله، فإذا أراد الله بعبده خيرا فلا أحد يقدر على رده، وإذا أراد به ضرا فلا أحد يقدر على منعه.
و(يَمْسَسْكَ) أصل المس ملاقاة اليدِ لشيء آخر، والمعنى: إن يصبك الله (بِضُرٍّ) والضر كل ما يؤلم من الأسقام ومصائب الزمان، ويشمل عموم الأذى والشرور (فَلَا كَاشِفَ) ولا مفرج له ورافعا ضره إلا الله، وجملة فلا كاشف له جواب شرط (وَإِنْ يَمْسَسْكَ)، والخير في (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) كل ما هو نافع، أو ما لا ضرر فيه، وجملة (فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) معناها أنه القادر على حفظ الخير وبقائه إذا وقع، لا أحد يقدر على زواله إن أراد الله دوامه، وهي دليل جواب الشرط المحذوف، والتقدير: وإن يمسسك بخير فلا أحد يمنعه.
(وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ)(18)
جملة (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) معطوفة على قوله (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ)، تؤكد أن القوة لله جميعا، فهو القاهر، والقاهر هو الغالب، المكره خلقه على ما يريد، وهو فوق عباده، مسيطر غالب عليهم، لا يخرجون عن إرادته وسلطانه، فهم لا يريدون المرض ولا الموت ولا العجز، ولكنهم مقهورون على ذلك، وفقا لمشيئته وحكمته، ويقع لهم النوم والغفلة والنسيان كرها، وإن لم يريدوه، فهو (الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) بالسيطرة والغلبة، والعباد: كل مَن ميزه الله عن العجماوات بالعقل من خلقه، فهم جميعا عبيد لله، لكن العرف خص العبيد بالمملوكين، والعباد بعامةِ العقلاء (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الذي وإنْ غَلبَ وقَهرَ فأفعالُه صادرةٌ عن حكمةٍ بالغة، محمودة العواقب، وعلمٍ كاملٍ بخفايا الأمور وتدبيرها، فإن الحكمةَ هي العلمُ بالأشياء على ما هي عليه، والإتيانُ بالأفعال على ما ينبغي.
[1]) شعب الإيمان للبيهقي: 1557.
[2]) الواقعة: 63، 64.
[3]) الذاريات: 57
[4]) مسلم: 855.
[5]) آل عمران: 185.
[6]) القلم: 51.
[7]) الحج: 72.