المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 11 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (11)

(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِمْ): اسم الإشارة (أولئك) عائدٌ على الذين يؤمنون بالغيب وما بعده، وقد يُستعمل (أولئك) لغير العقلاء، قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا)[1].

فالذين يؤمنون بالغيبِ يهديهم ربُّهم بإيمانهم، وهم على دليلٍ من ربهم نيّر، وعلى طريقٍ واضحٍ بَيّن، لا التباسَ عليهم فيه ولا حيرة.

(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ): وعاقبتُه عليهم الفلاحُ، والفلاحُ مِن الفَلَح، وهو القطعُ، ومنهُ (الأفلَحُ) لِمن قُطعت شفته السفلَى، وفي المثل: (إنّ الحديدَ بالحديدِ يُفْلَحُ)، سُمي به الفائزُ الناجي؛ لأنّه قطعَ المصاعبَ حتى نالَ مطلوبَه، فالفلاحُ؛ النجاحُ والفوزُ بجوامعِ الخير ومفاتيحِه، وأوائِلِهِ وأواخرِه، في الدنيا والآخرة، وهو لفظٌ قليلُ الحروف، عظيمُ المعنى، جامعٌ لكل خير، حتى عبّروا عنه بأنه الظفرُ بالمطلوبِ، والنجاةُ مِن المَرهوب، وهذا لا شك فوز مؤكَّدٌ للمتقين، الذين اتصفوا بالأوصافِ السابقةِ، مِن الإيمان بالغيبِ وما بعده، وتأكدَ دخولُهم في الفلاح بضميرِ الفصلِ (هم)؛ ليدلَّ على تمكنِهم مِنه، كما تأكد بتعريف الفلاحِ دون تنكيره؛ ليدلَّ على حصولِه لهم كاملًا وافيًا، وأنّهم هم الأحقاءُ به، الجديرونَ به.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ):

بعدَ أن ذكر الله تعالى أوصاف المتقين - الّذين حصلت لهم الهداية بالقرآن، والفلاح بالإيمان ـ ذكرَ الصنف الآخر الّذين حُرموا الهداية، وذلك لتعظم النعمة على أهل الفلاح ، وتشتد النقمة على أهلِ الضلال.  

وقد بدأ الله تعالى بمن واطأت قلوبُهم ألسنتَهم في الإيمان، ووافقت علانيتُهم سرَّهم؛ فكانوا مِن المفلحين، وثنّى بمَن عاندهم، فكان على القلوب أقفالها، وعلى الأسماع والأبصار غشاوتها، فاستوى عندَهم الإنذارُ وعدمُه، وهم ضدٌّ لمن قبلهم مِن المتقين والمفلحين، والضدُّ يُظهر حسنَه الضدُّ، وعقّبه بصنفٍ ثالث؛ وهم الّذين أشكلت أحوالُهم، وتناقضَت أقوالُهم مع أعمالِهم، فكانوا أخبثَ الفريقين، فخادعوا، ومَكروا، وأضمَروا البغضَ والكيدَ، وأظهروا النصحَ والودّ، يُعلنونَ النّصرةَ، ويُضمرونَ الغدرة، ويأخذونَ مِن المأمَن على غِرة، فكانوا لذلك أَفسدَ ممّن قبلَهم، وأشدّ عدوانًا مِن غيرِهم، وهُم المنافقون.

ولمّا كان المتبادر إلى الذهن أنّ هداية القرآن - لوضوحِ دلالتها وظهورِ حجتها - تشملُ هذين الفريقين مِن غير المؤمنين أيضًا؛ استؤنفَ الكلام عليهما بحرفِ التأكيد: (إنّ)، تنزيلًا لغيرِ الشاكّ، وهم المؤمنون، منزلةَ الشاكّ.  

(كَفَرُوا): الكفرُ ضدّ الإيمان، ويُطلق على غمْط الحقّ وجحدِ النعمة، ومنه الحديث: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)[2].

وأصلُه يرجع إلى السَّتر والتغطية، مِن (كَفَرَ) بمعنى سَتر وغَطّى، لذا سمي الليل كافرًا؛ لأنه يستر الأشياء بسواده، فلا يُرى معه شيء[3].

سُمي الكافر بذلك لأنّه يسترُ الحقّ ويجحدُه، والشركُ في حكمِ الكفر، وأصلُه من الإشراك في العبادة، ومعنى الكفر في الشرع ردّ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الإذعان لما عُلم بالضرورةِ أنه مِن دين الإسلام، مِن توحيدِ الله تعالى، وما يجب الإيمان به في أمور العقيدة إجمالا، أو الاستخفاف بشيء من أحكام الشريعة، أو اعتقاد عدم وجوب تحكيمها، أو إنكار حكمٍ من أحكامِها القطعية، كإنكار الصلاة أو الزكاة، أو إباحة المحرمات، ويدخل في ذلك كلّ قول أو فعل فيه استهزاء بما عُلم أنه مِن الدين، على وجهٍ لا يقبل التأويل.

ولا يكفي في الإيمان اعتقادُ صحة ما ذُكر، مما يجب الإيمان به ، بل شرطُ الإيمان التسليمُ والقبولُ والإذعانُ له، فقد قال الله عن المشركين: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[4]، وقال: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)[5].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، هذا عُمومٌ يُرادُ به خصوصُ مَن سَبقَ في علمِ الله أنّهم لا يؤمنون؛ كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ وعتبةَ بنِ ربيعةَ والوليدِ بنِ عتبةَ، وغيرِهم ممن يموتُ على الكفر، وذلك لوجودِ كفارٍ أسلمُوا بعد هذه الآية، ونفعَهم الإنذار.

فمن سبق في علمه أنهم لا يؤمنون، سيّان عليهم الإنذارُ وعدمُه.

(أَأَنْذَرْتَهُم): الإنذارُ؛ إعلامٌ بتخويفٍ، يتسعُ زمانُه للتحوطِ والتحرّزِ، وهو إشعارٌ مِن الله لهذا الفريقِ، أنّه استَوى عندَهم الإنذار وعدمُه، فهلاكُهم محقَّق، وحالُهم مَيئُوسٌ منه، وهذا أسوءُ حالٍ يكون عليه العبد؛ أن لا تحركَه آيةٌ، ولا تؤثّر فيه موعظة؛ لقساوةِ قلبه، كما قال الله تعالى عن قومِ لوطٍ عليه السلام: (قالوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِين)[6].

وصورةُ الجملةِ (سَوَاء عَلَيهِم ...) صورةُ الاستفهامِ، ومعناها الإخبارُ، وذلك لوجودِ (سَوَاءٌ)، كما تقولُ: سواءٌ عليّ قدمَ زيدٌ أم عمرٌو، أي: استَوى الأمرانِ عندي، ولو قُلت: أزيدٌ قدِمَ أم عمرو؟ بدون سواء، لكان استفهامًا، أي: أيّهما قدمَ؟

 

 

 

[1] [الإسراء:36].

[2] [البخاري:29].

[3] ، قال الشاعر:

         فَتَذَكَّرَا ثَقَلًا رَثِيدًا بَعْدَمَا           أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ

يعني سترَ الظلامِ للشمسِ، ودخولها فيه.

[4] [النمل:14].

[5] [الأنعام:33].

[6] [الشعراء:136].

التبويبات الأساسية