بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (265)
[النساء:150-154].
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)[النساء:150-151].
عودٌ إلى الكلام على أهل الكتاب، وبالخصوصِ اليهود الذين يساكنُون المسلمينَ بالمدينة، وكفرُهم بالله هو وصفُهم له بما لا يليقُ، ونسبتهم له الصاحبة والولد، من مثل قولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)([1])، وكفرهم برسلهِ هو كفرُ الفريقين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكفر اليهود بعيسى، وقولهم (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) وكفرهم وتفريقهم بين الله ورسله مستمرٌّ، ولذلك جاء التعبيرُ في الفعلينِ بالمضارع، الدالِّ على التجددِ والحدوثِ، في قوله (يَكْفُرُونَ) و(يُرِيدُونَ) ويمكنُ حملُ (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) على المشركين عبدةِ الأوثان، وحمل (يُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) على بعض الفِرق المارقة، مثل الصابئة وغيرها، التي لا تؤمنُ بالرسل، وحمل الذين يقولونَ (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي بعض الرسل ونكفرُ ببعض، على أهل الكتابِ، وكلّ من يفرقُ هذا التفريق في الإيمانِ بالله فيؤمنُ ببعضٍ ويكفر ببعض، سواء كان مِن أهل الكتاب أو من غيرهم؛ هو يريدُ أن يتخذَ بين الإيمانِ والكفرِ قسمًا ثالثًا، وعلى هذا الوجهِ في تخصيصِ كل جزء من الآية بفريقٍ من أهل الكفر، فإن الذين يكفرونَ بالله ورسله وما عطفَ عليهم؛ هم أقسامٌ متقابلةٌ، ليسُوا قسمًا واحدًا، فتكون الواوُ في قوله (وَيُفَرِّقُونَ) وما بعده بمعنى (أَو) (وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا) طريقًا وسطًا بين الإيمان والكفر، ما أنزلَ الله به مِن سُلطان، ولذا فالله أجملَ الكلامَ عليهم جميعًا في حكمٍ واحدٍ، بقوله (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) فاسمُ الإشارة خبرٌ لقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) أي: أولئكَ هم الكاملونَ في الكفر، حتى تحصلَ الفائدةُ من الإخبارِ بالكفرِ عن الكفر، فالثاني كفرٌ كاملٌ، و(حَقًّا) منصوبٌ على المصدر، أي: حقَّ الكفر، أو على الوصف للمصدر: كفرًا حقًّا، والإشارة إليهم بالبعيدِ (أُولَئِكَ) تدلُّ على أنهم جميعًا جَديرونَ بوصف الكفر، الذي أتَى بعد الإشارة، وتأكدَ ذلك عليهم بتعريفِ جزئيِ الإسناد، الذي يفيدُ الحصر، وبضميرِ الفصلِ، مما يدلُّ على أنهم هم الكاملونَ في الكفر، البالغونَ فيه الغاية، وفيه ردٌّ عليهم، فليس هناكَ إلا إيمانٌ وكفرٌ، ولا وجُودٌ لما اخترعوهُ من طريقٍ وسطٍ، فذاكَ طريقُ المنافقين، لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، قال تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)([2]).
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)[النساء:152].
بعد ذِكر الكافرين، وما أعدَّ الله لهم من العذابِ المهينِ، ذَكر الله المؤمنين، وما أعدَّ لهم من كرامةٍ ونعيمٍ؛ ليزدادَ أهلُ الكفر حسرةً، ويزدادَ المؤمنونَ رضًا وغبطةً، وذَكر أوصافَهم المناقضةَ لأوصاف الكافرين، فهم يؤمنونَ بالله وبجميعِ رسله، ولا يُفرّقونَ بين أحدٍ من رسله، ولا يقولونَ نؤمنُ ببعضٍ ونكفرُ ببعضٍ، كما يفعل الكفرة من النصارى واليهودِ، فإيمانُهم كاملٌ، وطريقُهم واحدٌ، والإشارة إليهم بـ(أُولَئِكَ) لتفخيم الجزاءِ الموعودِ، الذي ينتظرُهم من الغفورِ الرحيمِ، و(سَوْفَ) هنا حرفٌ لتأكيد الإيتاءِ والعطاءِ، لا لمجردِ الاستقبالِ، فإنَّ الاستقبالَ مستفادٌ من الفعل المضارع (يُؤْتِيهِمْ).
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا)[النساء:153].
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ) السائلُ أحبارُ اليهود، طلبُوا من النبي صلى الله عليه وسلم طلبَ تعنتٍ وشقاقٍ، قالوا له: إن كنتَ تريد أن نؤمنَ لك، فأنزل علينا كتابًا من السماء، يكونُ مكتوبًا على ألواح، كما نزلتِ الألواحُ على موسى عليه السلام (فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ) الفاء الفصيحة واقعةٌ في جواب شرط مُقدَّر، والخطابُ تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: يسألكَ أهل الكتاب هذا السؤالَ المتعنّت، فإنِ استعظمْتَهُ منهم، فاعلمْ أنّ أصولَهم ضاربةٌ في الكفر، فلا تعجَبْ لما وقعَ لك مِن تعنُّتِهم، فقد سألَ أسلافُهم موسى أكبرَ من ذلك في الشقاق والعنادِ، فقالوا: إن كنتَ تريدُ أنْ نؤمنَ فأرِنا الله جهرةً، فقوله (جَهْرَةً) صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: أرِنَا اللهَ رؤيةَ جهرةٍ، لا التباسَ فيها ولا احتمالَ، ووصفُهم الرؤية بالجهرةِ يدلُّ على أنهم طلبوها للتندرِ والفرجةِ، قَبّحهم الله، لا للإيمانِ والخشيةِ كمَا طلبها موسَى صلى الله عليه وسلم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) نارٌ من السماءِ أحرقتهم (بِظُلْمِهِمْ) بسببِ كفرِهم وتعنتهم، وما انطوتْ عليه نفوسُهم من الخبثِ والاستخفافِ في طلبِ الرؤية، لا بطلب الرؤية في حدِّ ذاتها (ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ) عَبدوا العجلَ الذي صنعوه من حليّهم، ورَقصوا حوله، فعلوا ذلك (مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) والبَيِّنَاتُ: المعجزاتُ البينة الواضحةُ، الدالةُ على صدقِ نبيهم صلى الله عليه وسلم، كالعصَا وغيرها، وليستِ البيناتُ هنا التوراة؛ لأنهم حين عَبدوا العجلَ لم تكنِ التوراةُ نزلتْ عليهم بعْد (فَعَفَوْنَا عَن ذَالِكَ) بعد أن نفذوا ما أُمروا به من التوبة، وقتَلوا أنفسهم تعبيرًا على صدقهم فيها، عفَا الله عنهم (وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا) أعطاه اللهُ حجةً عليهم وغلبةً، فانقادُوا له طوعًا أو كرهًا، مِن ذلك السلطان عليهم أنه أَحرقَ العجل، وأَمرهم بقتلِ أنفسِهم، فقتلوا أنفسَهم، إلى غير ذلك من وجوهِ تأييدِ الله له عليهم، والتمكين له منهم، فالسلطانُ إخبارٌ عن التمكينِ لموسي صلى الله عليه وسلم مطلقًا، لا خصوص حرقِ العجلِ؛ لأن السلطانَ في الآية ذُكر بعد العفو، فلو جُعل السلطانُ خصوصَ حرقِ العجل، لاقتضَى أن يكونَ ذِكره قبلَ العفو.
(وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)[النساء:154].
(وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) الجبل، رفعه الله فوق رؤوسهم، حتى رأوه كالساقط عليهم ليدمرهم؛ تخويفًا لهم (بِمِيثَاقِهِمْ) الباء للسببية، خُوِّفوا بسقوط الجبل عليهم؛ لأجل أخذ العهدِ والميثاقِ عليهم بالإيمان، فقالوا حينها: سمعْنا وأطعْنا، لكنهم لم يوفوا (وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا) هذا امتحانٌ آخر؛ أمرهم اللهُ أن يَدخلوا القرية مِن بيت المقدس، وأن يدخلوها سُجدًا، متواضعينَ مستضعَفينَ، ويقولوا عند دخولهم (حِطَّةٌ) أي: ويوافق قولهم بالاستكانة والضعف فعلهم في الانحطاط بأبدانهم عند دخولهم، حتى لا يَسْتَعْدُوا أهل القرية عليهم، فتمرَّدوا، وبَدَّلوا واستهزؤوا، وقالوا قولًا غير الذي قيل لهم وأُمروا به (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ) من العَدْو، بمعنى العدوان، لا تعتدُوا يوم السبت، فتفعلُوا ما نُهيتم عنه، مِن صيد الحيتان، فالنهي لهم عن السبت كان على عهد موسى صلى الله عليه وسلم، لكن ما حصلَ لهم من المسْخِ بتعدِّيهم في السبت كانَ على عهدِ داودَ صلى الله عليه وسلم، فهم هم على شقاقٍ دائمٍ مع جميع الأنبياء (وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) أخذنا عليهم عهدًا مؤكدًا بالطاعة، وهو قولهم حين رأوا العذابَ بسقوطِ الجبل عليهم: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
وما ذكرته هذه الآيات من تعنُّت اليهودِ مع موسى عليه السلام، مثلُه فعله أحبارُ اليهودِ مع النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، فهم في تعنتهم كتعنّت أسلافهم، فكانتْ مطالبُهم كمطالبِ مَن سَبقهم من آبائهم، طَلبوا ما لا يقدرُ عليه الأنبياء، وما لا فائدةَ منه، ولا يُرجى منه نفعٌ، كما قال تعالى عن المشركين: (وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا)([3])، طلبَ اليهود رؤيةَ الله جهرةً، فعاقبَهم الله بالصعق؛ لظلمِهم، وأرسلَ عليهم نارًا أحرقتهم؛ بسببِ كفرِهم وتعنتهم، ثمَّ هم لم يتعلّمُوا، ولم يتعِظُوا بتلك العقوبة، فاتخذُوا العجلَ وعبدوه، من بعد ما جاءتهم المعجزاتُ الواضحةُ، التي تقودُهم للإيمان، فعفَى الله عنهم بعد توبتهم، وقَتلَ كثيرٌ منهم أنفسَهم، وكانت الغلبة والسلطانُ لموسى عليهم دائمًا، فحَرقَ العجل، ولكن كعادتهم، لا يؤمنونَ إلا قليلًا، فعاقبهم الله على نكثِهم العهودَ، ورَفَع فوق رؤوسهم الطور؛ لأجل أن يأخذَ عليهم العهدَ والميثاقَ ألَّا يعودُوا، فقالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ولكنهم حين أُمروا بدخولِ الأرضِ المقدسة، نكصُوا وبدَّلوا قولًا غير الذي قيلَ لهم، وقيلَ لهم: لا تعتدُوا في السبتِ على صيدِ الحيتانِ، وأخذ عليهم الميثاقَ الغليظَ المؤكَّد، ولكنهم ما يعاهدونَ حتى يَنكثُوا.
[1]( التوبة:30.
[2]) يونس:32.
[3]) الإسراء:90 ـ 93.