المنتخب من التفسير -الحلقة 232- سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (232)

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)[النساء:36].

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)([1]) الخطابُ للمؤمنين، أُمروا بعبادة الله وحدَه، ونُهوا عن جميع أنواع الشرك، ومعنى الأمر بالعبادةِ: الدوامُ والثباتُ عليها، والاستزادةُ منها، والتبرؤُ مِن كل أنواعِ الشرك، كالرياءِ ونحوه.

والتنوينُ في (شَيْئًا) للعموم؛ ليشمل أنواع الشرك كلّها: الأصنام، والنصب، والبقر، والحجر، والشجر، وكلّ المعبودات، ويشملُ كذلك قليلَ الشرك كالرياءِ، وما كانَ أكثر مِن ذلك.

وعطفَ على الأمر بالعبادة وإقامة التوحيدِ مجموعةً مِن الأوامر، المتعلقة بالإحسانِ إلى القرابة والضعفاء والأصحاب، وقُرنَ الأمرَ بالإحسانِ إليهم بعبادةِ الله؛ إشعارًا بأهميتهم، والعناية بهم (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) يتعدَّى الإحسانُ بـ(إلى، واللام) وعُدِّي هنا بالباء لتضمنه معنى البر؛ ليفيد أنّ المرادَ البرّ بهما، الذي يعمّ – بالإضافة إلى المال – خدمةَ الذاتِ، والطاعةَ في المعروفِ، وخفضَ الجناح، وغير ذلك، وتقديم قوله: (بِالْوَالِدَيْنِ) على عامله (إِحْسَانًا) للاهتمام (وَبِذِي الْقُرْبَى) القربى: صفة من القرب، وهي القرابة، أي يليهما في الاهتمام الإحسانُ والبر بالرحم والقرابة، كالإخوة والأخوات، والأعمامِ والعمّات، والأخوال والخالات، وأعيدتِ الباءُ مع العاطفِ (وَبِذِي الْقُرْبَى) لتقوية المعنى، وتأكيد الإحسان إليهم، وقد تكرر الأمر بالإحسان للقرابة في القرآن، مقرونًا في كل مرة بالأمر بعبادة الله؛ للتنبيه على أن الإحسان إلى القرابة مع أهميته، كثيرًا ما يغفل الناس عنه، فلا يعطون الرحم حقَّها من المودة والصِّلة والإحسان، وحسن الصحبة، والانبساط، ورفع الكلفة التي عادةً ما تكون مع الأصحابِ الأجانب، ويحرم منها القرابات، الذين هم أحقّ بها؛ عبادةً وديانةً، وطبعًا ومروءةً، أما ديانةً فلطلبِها المؤكّدِ المتكررِ في القرآن، وأمّا مروءةً وطبعًا فلأنه لم يختلفْ العقلاءُ عنها أنّها مِن محاسنِ العادات، ومكارمِ الأخلاق، وأنها مِن شيمِ ذوي المروءات، ولم تزل مطلوبةً حتى مع اختلافِ الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عمّن كانوا على دينِ قريش من عمومته: (وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَهَا)([2])، وقال تعالى عن الأبوين المشركين: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)([3])، فَسِرُّ تكرارِ الاهتمامِ بهم في القرآنِ، أنه يكثر بينهم ما يشبهُ القطيعة، وعطفَ عليهم الإحسان لليتامى والمساكين؛ لحاجتهم وضعفهِم، وقلةِ مَن يهتم بهم، ويلتفت إليهم، وتقدم الكلام على اليتيم والمسكين في قوله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)([4]) في البقرة.

(وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) الجارُ: مَن قرب بيته من بيتك، والجيرانُ: مَن تقاربت بيوتهم، وليس لعدد بيوتهم حدٌّ عند مالك، لا بالأربعين ولا غيرها، بل ذلك بالعرفِ الذي تعارف عليه الناس، وما ورد في التحديد بالأربعين ضعيف([5])، والقرب الذي وصف به الجار يصح أن يكون مكانيًّا، ويصح أن يراد به جار القرابةِ من النسب.

وللجوار حقوقٌ مؤكدة، لا يحل الإخلال بها، وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم من ضيعها ولم يبال بها بنفي الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)([6])، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)([7])، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذَر: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)([8])، والجار المسلم الذي له مع الجوار نسبٌ ورحمٌ، له ثلاثة حقوق: حق الجوارِ، وحقّ القرابةِ، وحقّ الإسلام، والجارُ الجنُبُ: البعيدُ الذي ليس له رحم، له حقّان: حق الجوار، وحق الإسلام، والصاحبُ بالجنْبِ: كل مَن حسنت رفقته ومعاشرته؛ كالزوجة، والمخالط في خدمة، أو تجارة، أو سفر، أو وظيفة، أو دراسة، ونحوها، وابنُ السبيل: الغريب المار غير المقيم، والسبيل: الطريق السابلة التي يمرُّ بها الناس، نسب إليها المار؛ لأنها رمَتْ به على غير انتظارٍ وموعد، أَوصَى الله بهم؛ لغربتهم في المكان الذي يمرّونَ به، فهم فيه ضعفاء، لا يعرفُهم أحدٌ، ولا يهتدون إلى ما يصلحُ أمورَهم بسهولة، ولذلك كانوا من الأصناف المستحقة للزكاة، وهذا يدل على أن مَن بادر إلى عونِ ابنِ السبيلِ إذا مرَّ بالمكان، فقد أخذ بحظٍّ وافرٍ مِن الفضائل (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) هم العبيد والإماء، وهم أشدّ ضعفًا؛ لأنهم لا يملكون شيئًا، وكل ما معهم مملوك للسادة.

(إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا) مختالًا مِن الخُيلاء، وهي الكِبْر، فالله لا يحبُّ المتكبرَ على والديهِ وقرابته وجيرانِه، وعلى الضعفاء من اليتامى والمساكين، ومَن يتأففُ ويأنفُ منهم (فَخُورًا) ولا يحبُّ الفخورَ بنفسِه أو ولدِه أو مالِه وعمله، يتباهى بذلك على الناسِ ويتفاخرُ عليهم، وفي وصايا لقمان لابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)([9]).

 

[1]) نصب (شَيْئًا) على المفعول به لـ(تُشْرِكُواْ) أي: لا تشركوا به شيئًا مما يُعبد، أو على المصدر المؤكد لفعله، أي: لا تشركوا به إشراكَ شيءٍ مهما ضعف.

[2]) البخاري:5990. قال ابن بطال في معنى الحديث: “يعني: أَصِلها بمعروفها، والبَلُّ: هو الترطيب والتندية بالمعروف، وشبه عليه السلام صلة الرحم بالمعروف بالشيء اليابس يندى فيرطب، وذلك أن العرب تصف الرجل إذا وصفته باللؤم بجمود الكف، فتقول: ما تندى كفه بخير، وأنه لحجر صلد، يعنى لا يرجى نائله، ولا يطمع في معروفه، كما لا يرجى من الحجر الصلد ما يشرب، فإذا وصل الرجل رحمه بمعروفه قالوا: بلّ رحمَه بلًّا وبلالًا” [شرح ابن بطال:9/207].

[3]) لقمان:15.

[4]) البقرة:177.

[5]) جاء في الأدب المفرد عن الوليد بن دينار عن الحسن: أَنَّهُ سُئِلَ عَن الْجَارِ فَقَالَ: “أَرْبَعِينَ دَارًا أَمَامَهُ، وَأَرْبَعِينَ خَلْفَهُ، وَأَرْبَعِينَ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَرْبَعِينَ عَنْ يَسَارِهِ” حديث رقم: 109، ص:51.

[6]) البخاري: 5670.

[7]) البخاري: 6015.

[8]) مسلم: 6781.

[9]) لقمان:18.

التبويبات الأساسية