المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة 13 - تابع سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

- الحلقة (13)

 

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)

بدأ الكلام في هذه السورة عن المتقينَ، المهتدين بهدي الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، وهم (الّذينَ يُؤمِنونَ بالغَيبِ ويُقِيمونَ الصّلاةَ...)، ثم ثَنّى بالمعانِدينَ الّذين كفَروا ظاهرًا وباطنًا، واستوَى عندَهم الإنذارُ وعدمُه، وذكرَ القُرآن بعدهُما نوعًا ثالثًا مِن الكفر، ضمّ إلى الكفرِ؛ خُبثًا وخداعًا ومكرًا، وهم الّذين انطوتْ صدورُهم على الكفرِ وبيَّتوهُ، وقلوبُهم على الحقدِ والعُدوانِ وأسرُّوهُ، وقالوا بألسنتِهم آمنَّا وهم لا يؤمنونَ، وسمّاهم اللهُ تعالَى المنافقين، ولمّا كانَ كفرُهم أخبثَ الكفرِ وأرذلَه؛ استحقُّوا عذابًا زائدًا على عذابِ الكافرينَ، قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[1].

ونزل في الفريق الأولِ المؤمنينَ أربعُ آياتٍ مِن أول السورة، وآيتانِ في وصفِ الكافرين، وثلاثَ عشرةَ آيةً في المنافقين.

(ومِن الناسِ) الأصلُ في نونِ (مِن) اذا أتت بعدها همزة الوصل الكسرُ؛ لالتقاءِ الساكنينِ، لكنها مع الألف واللام تُفتح كمَا هنا، والمراد (بالناس) المنافقونَ، وسمّي المنافقُ منافقًا لإظهارِه غيرَ ما يُبطنُ، تشبيهًا له بنافِقاءِ اليَربوعِ[2].

فالناسُ؛ المرادُ بهم المنافقونَ، و(مَن) موصولٌ، لفظُها مفردٌ، ومعناهَا يعمُّ، و(يَقُولُ) جاءَ مفردًا مراعاةً للَفظِها، و(آمَنّا) جمعًا مراعاةً لمعنَاها، وفي مثلِه دائمًا يُقدّم اللفظُ - وهو الواحدُ - على المعنَى؛ لأنّ المفردَ قبلَ الجمعِ في الرتبةِ، ولا يَصحّ العكسُ، فلا يُقالُ مثلًا: (مَن يقولون آمنت) الخ. والإيمان بالله تقدم الكلام عليه.

و(بِاليَومِ الآخِرِ)؛ هو يوم القيامة، وسمّي الآخِر لأنّه لا ليلَ بعدَه، وذلكَ يقتضِي أنّه لا يومَ بعدَه؛ لأنّه لا يقالُ يومٌ إلّا لِما تقدّمَه ليل.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

نزلتْ أربعُ آياتٍ مِن أول هذهِ السورة في المؤمنينَ، وآيتانِ في وصفِ الكافرين، وثلاثَ عشرةَ آيةً في المنافقين، والناسُ المرادُ بهم المنافقونَ، و(مِن الناسِ) الأصلُ في النونِ الكسرُ لالتقاءِ الساكنينِ، لكنها تفتح مع الألف واللام كمَا هنا، وسمّي المنافقُ منافقًا لإظهارِه غيرَ ما يُبطنُ، تشبيهًا له بنافِقاءِ اليربوعِ، وهيَ حُفرتُه، يُرقّقُ فِي أعلاهَا التراب، فإذَا مَا أحسَّ بالخطرِ ضربَ الترابَ برأسِه فخرجَ، فظاهِر حفره ترابٌ، وباطنُه حفر، شُبّه به المنافقُ، ظاهرُهُ إيمانٌ وباطنُه كفرٌ.

ودعواهُم الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخر؛ هوَ مِن جملةِ نفاقِهم، وإخفاء ما تنطوِي عليه قلوبُهم، مِن الخداعِ وتزيينِ الكلام، الذِي كانُوا يخادِعونَ به المؤمنين، مِن أجلِ حظوظٍ لهم يصِلُونَ إليها بهذا الخداع؛ مِنها اطّلاعُهم على أسرارِ المؤمنينَ، فقد كانوا حريصينَ عليها لإذاعَتِها، ومنها أنْ يصيبوا شيئا مِن المغانِم معهم.

وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم مع فضح الله إياهم في قوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[3].

ومع عِلْمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم، وإطْلاعه حذيفةَ رضي الله عنه عليهم، كانَ لمصلحة الدعوة، وتأليفِ القلوب؛ لئلَّا تنفرَ عنهُ، ولِئَلّا يتحدثَ الناسُ أنّ محمدًا يقتلُ أصحابَه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُعطي المؤلفةَ قلوبُهم، مع علمِه بسوء اعتقادهم؛ تأليفًا لهم، وأمّا قولُه تعالى: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا)[4]، فمعناه: إذا هم أعلنُوا النفاقَ وصرحوا به وأظهروهُ، ولم يعودُوا يتظاهرونَ بالإيمان.

و(مَن يَقُولُ)؛ مَن موصولٌ، لفظُها مفردٌ، ومعناهَا جمع يعمُّ، وفعل (يَقُولُ) جاءَ مفردًا مراعاةً للَفظِها، و(آمَنّا) جمعًا مراعاةً لمعنَاها، وفي مثلِهِ القاعدةُ أنْ تُقدّم مراعاةُ اللفظِ - وهو المفردُ - على مراعاة المعنَى؛ الجمع، ولا يَصحّ العكسُ؛ لأنّ المفردَ يأتي الأول في الرتبةِ، فلا يُقالُ مثلًا: (مَن يقولون جئت).

(آمَنّا)؛ الإيمان بالله تقدم الكلام عليه، في قوله: (يُؤمِنونَ بالغَيبِ)[5]. و(بِاليَومِ الآخِرِ)؛ هو يومُ القيامة، وسمّي الآخِر لأنّه يومٌ لا ليلَ بعدَه، وذلكَ يقتضِي أنّه لا يومَ يأتي بعدَه أيضًا؛ لأنّه لا يتجدد يومٌ إلّا إذا تقدّمَه ليل.

والإيمانُ بالله وباليومِ الآخرِ الذي ادَّعَوه، يقتضِي الإيمانَ بكلّ ما يجبُ الإيمانُ به، لِذا لمّا نفاهُ عنهم أطلقَه؛ لتناولِ النفي كلَّ أفرادِه عنهم، وقال: (ومَا هُم بِمُؤمِنِينَ)، أي: ليسُوا مِن الإيمانِ في شيءٍ، لا قليلٍ، ولا كثير، وجاءَ التعبير عن قولهم (آمَنّا) بالجملة الفعلية، وفي الردّ عليهم بالجملة الإسمية؛ ليفيدَ أنّ ما ادعوه مِن الإيمان غيرِ النافعِ لم يدُمْ، بلِ انقطعَ، وصارَ مِن الماضي، أما الردّ عليهم فجاءَ بالجملةِ الاسمية المنفيةِ؛ ليفيدَ أنّه لم يكن لهم اتصافٌ بصفةِ الإيمانِ أصلًا؛ لا ابتداءً، ولا دوامًا.

(يُخَادِعُونَ اللّهَ والّذينَ آمَنُوا): الخداعُ؛ الفسادُ والانطواءُ على الخبثِ والمكرِ، بإظهارِ شيءٍ وإضمارِ غيرِه، وفعلُ (خَادَعَ) الأصلُ أنّه يقتضِي المشاركةَ والمغالبةَ، والمباراةَ بينَ طرفين، مثلُ فعل قاتَلَ وشارَكَ، ومتعاطِي الفعل إذا كانَ يأتيهِ ويقوم به على وجهِ المغالبةِ، كانَ أبلغَ مِن فعل مزاولته وحدَه؛ لِما فيهِ مِن المدافعة، وهذا المعنى مِن المغالبةِ في جنبِ الله مُحالٌ؛ فإمّا أن يُحمَل على أن المفاعَلَة هنَا ليسَت على بابِها، فقد تجيءُ المُفاعلَة مِن الواحدِ، وهو كثير، كما في قولِك عالجَت المريض وعاقَبَت اللصّ، وناهزَت الحلمَ، وسافرَ فلان، وعافاهُ الله، وإمّا أن تكونَ مِن باب المشاكلةِ؛ كما يأتِي في قوله تعالَى: (اللهُ يَستهْزِئُ بهِم)[6].

 

(ومَا يخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)؛ أي: ذَواتهُم، والنفسُ ذاتُ الشيءِ وحقيقتُه، وتُطلقُ على الروحِ والدم؛ لأنّ قوامَها به، وعلَى الماءِ؛ لفرطِ حاجَتِها إليه.

(ومَا يَشْعُرُونَ): شعرَ بالشيءِ، معناه؛ فَطنَ له وتبَيَّنَه، ومِنه الشَّاعرُ؛ لفطنتِه لِما يأتِيه في شعرِه مِن غريبِ المعاني، التي لا يَفطَن لهَا غيرُه، ومنه قولُهم: لَيتَ شِعرِي، أي: ليتَ فطنَتِي ونبَاهتِي تُدرِك ذلك.

والشعورُ؛ مبادئُ الإدراكِ، وبانتفائِه يكونُ انتفاءُ تمامِ الإدراكِ مِن بابِ أولى، والشعورُ بالشيءِ كذلك العلمُ بهِ عن طريقِ الحواسّ، فهُم لِفرطِ غفلتِهم كأنّهم فَقدوا الإحساسَ، حتّى بما يُحَسّ.

ومعناه؛ أنّهم لا يفطنون ولا ينتبِهون أنّ خِداعَهم واقعٌ بهم، فقد يَنجوْن مِن القتلِ والعقوبة في الدنيا إلى حينٍ، ويحفظونَ أموالَهم بخداعِهم للمؤمنين، ويظنّون أنهم فازوا ونَجوا، ولا يشعرُون أنّ هذا الخداعَ لا يتمّ لهم، فسيفضَحُهم الله ويكشفُ أمرَهم في الدنيا، ويخسرونَ الآخرة، حينَ يعرَضُونَ على مَن لا تَخْفى عليه خافِية، وحينَ يُقالُ لهم ارجِعوا فالتَمسُوا نورًا، وعندما يكونُ مصيرُهم كمَا أخبرَ الله عنهم: (إنّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ الأسْفلِ مِنَ النَّارِ)[7].

 


[1] [النساء:145].

[2] يقول له العامة: جربوع؛ (حيوان صغير من القواطع كالفأر)، والنافقاء هيَ حُفرتُه التي يختفي بها، يُرقّقُ فِي أعلاهَا التراب، فإذَا مَا أحسَّ بالخطرِ ضربَ الترابَ برأسِه فخرجَ، فظاهِر حُفرِه ترابٌ، وباطنُه حفر، شُبّه به المنافقُ، ظاهرُهُ إيمانٌ وباطنُه كفرٌ.

[3] [المنافقون:1].

[4] [الأحزاب:61].

[6] سيأتي عند تفسير الآية 15 من سورة البقرة.

[7] [النساء:145].

التبويبات الأساسية