المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 185- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (185)

(لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ)[آل عمران:111-112].

(لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) الأذى: الألم غير البالغ المحتمل، على ما فيه من مشقة، والمعنى: لا تخافوهم، فضررهم عليكم لا يتعدى الأذى بالسباب والشتم والمطاعن، والدسائس والإشاعات والكذب، ونحو ذلك مِن الزيف وقلب الحقائق، كما هي عادة أهلِ السوء؛ لتنقيصكم والتنفير من الحق الذي أنتم عليه، فضررهم لا يتجاوز تلك المطاعن والأكاذيب (وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) فإنهم لا يقدرون على قتالكم، ولا على هزيمتكم؛ لأنهم إنْ يقاتلوكم ينهزموا ويولوا الأدبار، أي: إذا واجهوكم واشتدَّ القتالُ يولُّون تولِّيَ المنهزمينَ المدبرين، لا تولي المتميزين المنحرفين إلى فئة، لقتال الكارين، ثم بعد هزيمتهم لا ينصَرون، ولا تكتب لهم غلبةٌ عليكم، وهذه الآية من الغيب الذي وافقهُ الواقعُ في الماضي مِن تاريخ اليهود، فذلك كان حالُ يهودِ قريظة والنضير وقينقاع مع المسلمين، قُتلوا وأجلوا مِن المدينة  أذلاء.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) الضمير المستتر في (ضُرِبَتْ) يرجع إلى اليهود المذكورين فيما تقدم، في قوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)، وما بينهما من قوله: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) استطراد([1])، لبيان أنّ منهم مَن آمن وحسن إسلامهُ، فلم يصبه ما أصابهم (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) لزمتهم المذلة والصغار في كل أحوالهم (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) ثُقفوا مِن الثقف، وهو: الأسْرُ والاستيلاءُ والتمكّن، أي: في أيِّ مكان وُجدوا أُخذوا بقوة وتمكّن، أخْذَ الأسير الذليل، ولا مخلَص لليهود من هذا الحال الملازم لهم، الذي أخبر به القرآن عنهم من التشرد والمذلة، إلا بأحدِ أمرين (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) إلا بالإيمان بالله والدخول في طاعته، أو بالتحالف بأممٍ أخرى تدافعُ عنهم، والحبل: العهد، وهو مِن اللهِ الصلةُ به، وموالاتُه، والدخولُ في دينه، وطاعتُه، ومِن الناسِ التحالفُ معهم على النصرة، والاحتماءُ بهم، وهذا ما عليه حال اليهودِ، لم  يختارُوا عهدَ اللهِ والدخول في طاعته، فأُخرجوا مِن ديارهم في المدينةِ لأولِ الحشر، وأصابَهم الذلُّ والتشردُ، فلم تقمْ لهم دولةٌ، وعاشُوا إمّا في كنفِ المسلمينَ، أو في بلادِ الأرضِ أشتاتًا، أو بحبل مِن الناس؛ بعهدٍ وتحالفٍ مِن قوةٍ أخرى تحميهم، فإذا ما تخلّت عنهم الأحلافُ، سامهُم أهلُ الأرضِ سوءَ العذاب، كما كانَ حالهم مع الألمانِ عقبَ الحربِ الثانية، فأينما حلّوا مطاردُون، حتى في فلسطين اليوم، مع ما يظهر مِن قوةِ كيانهم، لا يعيشونَ إلا بحبلٍ مِن الناس، وحمايةِ الغربِ (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) باؤوا مِن بآءَ، بمعنى: رجعَ وأقرَّ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ)([2])، أي: أُقرُّ لك بنعمتك، ومعناه هنا استحقُّوا، أي: وصاروا مستحقينَ ومتلبِّسينَ بغضبٍ من الله، لا ينفك عنهم (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) لزمتهم المسكنة، والمسكنة: الحاجةُ والفاقةُ، فليست المسكنة بقلة المال وحدها، فقد تكون بالافتقار والحاجة الشديدة إلى غيرهم لبقائهم، والحفاظِ على كيانهم، والمسكنةُ بهذا المعنى لا تفارقهم.

(ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الباءُ في (بِأَنَّهُمْ) للسببية؛ ما أصابهم مِن الذلة والمسكنة بسببِ كفرهم (بِآيَاتِ اللهِ) وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، يكفرونَ بما جاءهم مِن وحيِ السماء، في الكتب المنزلة على الأنبياء، وتقدم الكلام على قتلهم لأنبيائهم، وعلى معنى قوله: (بغير حقٍّ) في أول السورة، وفي البقرة عند قوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)([3])، والإشارة في قوله: (ذَلِكَ) إلى ما أصابهم مِن غضب الله، وما لزمهم من المذلة والمسكنة، أي: سببُ غضبِ اللهِ عليهم كفرُهم وقتلُهم لأنبيائهم (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) الإشارة إمّا أن تكون كالإشارةِ قبلها؛ إلى ما أصابَهم مِن الغضب والذلة، فيكون العصيانُ والعدوانُ المذكور سببًا آخر لما أصابهم، مضافًا إلى السبب الأول، وهو كفرُهم وقتلُهم الأنبياء، وإمّا أنّ الإشارة الثانية إلى السببِ الأول نفسه، فسببُ كفرِهم عصيانُهم، وسببُ قتلهم لأنبيائهم تعديهم وعدوانهم لكلّ ما هو خيرٌ، الذي طُبعوا عليه ولا يفارقُهم، فتكون الإشارة الثانيةُ إلى سببِ السببِ.

[1]) الاستطراد أتى أصل لفظه من أن الصائد إذا قصد صيداً بعينه، فعرض له صيد آخر مضى في أثره وطارده لا عن قصد، وفي أساليب الكلام: الاستطراد: هو أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له، والفرق بيته وبين الاعتراض أنّ الاعتراض مؤكد لما سيق له الكلام، منزل منزلة الجزء منه، حتى صح توسطه بين أجزائه، ولا يعد الإتيان به فصلا للكلام، والاستطراد له مناسبة بالكلام لكن ليس جزءا منه، وشبهه بالاعتراض من حيث إنهما غير مقصودين، ويكون الاستطراد بواو وبدونه، وقد يتعلق بما معه بحسب الإعراب.

[2]) البخاري: 6306.

[3]) البقرة:11.

التبويبات الأساسية