بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (269)
[النساء:166-170].
(لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ([1]) وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا)[النساء:166].
هذا الاستدراك (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) عودٌ إلى الرد على مَن أنكروا نبوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يُنزل عليهم كتابًا من السماء، وقالوا بلسان الحال أو المقال: لن نشهدَ ونقرَّ لك بالنبوة، حتى يأتينا الكتابُ من السماء، فردَّ الله عليهم؛ تأييدًا لنبيّه، وتثبيتًا له: ليسَ بكَ حاجةٌ إلى شهادتهم، فقد شهد لك من هو خيرٌ منهم، الله جلّ جلالُه يشهدُ بما أنزلهُ عليك مِن القرآنِ والوحي، وملائكتُه يشهدونَ أنكَ رسول الله، ويشهدون بصدق ما أُنزل إليك، ويشهدون لك عند الله أنك أديت الأمانة وبلغتَ الرسالة، وكفى بالله شهيدًا، وبملائكته الكرام شهيدًا، فلا يحتاج مع شهادة الله وملائكته إلى شهادةٍ غيرها.
وأصل معنى الشهادة بين الناس: الإخبارُ بما يغلِبُ على الظن صدقُ المخبر به، أو تكذيبُه، وشهادةُ الله بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم: علمُه وإخباره بصدقِ ما أنزلَ عليه، وإثبات صحته؛ بإظهار المعجزات، وتأييد ذلك بالحججِ والبراهين، وإذا ثَبتتْ شهادةُ الله ثَبتتْ شهادةُ الملائكة؛ لأنّ شهادتهم تبعٌ لشهادة الله، وأُعيدَ لفظُ (يَشْهَدُونَ) مع الملائكة، ولم يكتف بالعطف؛ لتأكيدِ شهادة الملائكة وأهميّتها، مضافةً إلى شهادةِ الله العزيز الحكيم، وما كان نزوله مؤكَّدًا تلبّسه بعلمِ الله، وحصلتْ به شهادة الله وملائكته؛ يكونُ من حيث ذاته قد بلغَ الغايةَ في الحسنِ والبلاغةِ، والصحةِ والإعجاز، لفظًا ومعنًى، ومِن حيث اختيار مَن أُنزل عليه؛ يكونُ أهلًا لاصطفائه للمنزَّل، وقدرته على تبليغه.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء:167].
الصَّد في قوله (وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ) المنع، فالكفرةُ ومَن يفعلُ فعلَهم من أعداء الدين، منعُوا وصدُّوا أنفسَهم عن الإسلام، وصدّوا غيرهم، وقد تقدّم قريبًا بيانُ الصد عن سبيل الله، عند قوله تعالى: (وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا) و(قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) بَلَغوا فيه الغاية؛ لأنّ ضلالاتِهم ضلالاتٌ متعددةٌ، ضلُّوا في أنفسهم، فظلموها باختيارهم الكفر، وضلُّوا بإضلالهم الناس، وصدّهم عن سبيل الله.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا)[النساء:168-169].
الكفرُ في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ) يعمّ كفرَ المشركين في مكةَ وكفرَ أهلِ الكتاب، وبخاصة اليهود في المدينة، فكلٌّ منهم ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر، وظلمُوا غيرهم بصدِّهم الناسَ عن الإسلام، فمِن ظُلمِ المشركين إخراجُهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه من مكة، وتآمرُهم على قتله، ومِن ظُلمهم للمؤمنين تعذيبُ مَن آمَن منهم بصنوفِ العذاب، حتى يرجعُوا عن دينهم، ومِن ظلمهم غيرَهم من عامة الناس، أنهم كانوا يمنعونَ مَن يدخل مكةَ مِن أن يأتيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمعَ منه، ومِن ظلم اليهودِ تكذيبُهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، والتأليبُ عليه، وتخذيلُ أصحابه، والاستهزاءُ بهم، والإرجافُ خلالهم؛ يبغونَهم الفتنةَ، ولم يتركوا وسيلةً يؤذونهم بها قولًا وفعلًا إلا سلكوها، فهؤلاء (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) فحرمانهم من المغفرة؛ سببه إمعانهم في الضلال والعناد، والإصرار على الكفر، والصدِّ عن سبيل الله، فكانوا لعنادهم كمن قال فيهم القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا)([2])، فعاقبةُ الإصرار على الكفر والزيادة في الكفر متشابهةٌ، هي خاتمةُ السوء، واليأسُ من الهداية، كما قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)([3])، وليس معناه أنّ الواحدَ منهم لو تابَ بالفعل وأناب، لا يقبلُ منه، بل هو إخبار باستبعادِ توبة مَن هذا حالُه، فليسَ لهم مع إصرارِهم وموتهم على الكفرِ سبيلٌ للمغفرة؛ لأنّ الله لا يغفرُ أن يشركَ به، وليس لهم إلا طريقٌ واحدٌ، المنتهي بهم إلى الخلودِ في النار، والاستثناءُ في قوله (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أشبهُ بأسلوبِ الذم بما يشبهُ المدح، فقوله: (إِلَّا) الدالة على الاستثناء، عقب قوله (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) يَتوقعُ منه السامعُ أن يأتيَهم فرجٌ بطريقِ هدايةٍ، تخففُ عنهم، فيُصدمونَ بأن المستثنى طريق جهنم؛ للخلودِ فيها، فسماعُه أَشدّ عليهم من المستثنى منه، وتعذيبُهم على كفرهم وصدِّهم سهلٌ على الله، لا يُكلفُه عناءً، ولا معالجة، لأنهم اختاروا الضلال.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)([4]) [النساء:170].
الخطاب بـ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) للمشركين، كما هو الغالب، يأمرهم الله بالإيمان بالرسول، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه جاءهم بالحق والشريعة والقرآن،
وقوله (مِّن رَّبِّكُمْ) أي الذي جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم، أصلُه ومصدرُه من ربكم، وفي نسبته إلى الرَّب، وإضافة الرَّب إلى ضميرهم بكافِ الخطاب، مِن الترغيبِ لهم في الإيمان، بما لا مزيدَ عليه، وأُتي باسم الرَّب دون غيره؛ لما فيه من معنى العناية والرعاية بأمرِ المربوب، ولذا أَعقبه بما يُشبه النصحَ في قوله (فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ) أي آمنوا يكن إيمانكم خيرا لكم، وَإِن تَكْفُرُواْ وتتمادوا على الكفر، وتقيموا عليه فإن الله غني عنكم، فقوله (فَإِنَّ لِلهِ) ليس جواب الشرط، وإنما دليلٌ على الجواب المحذوف، قائمٌ مقامه، أي: إن تكفروا فإنَّ الله غنيٌّ عنكم؛ لأنّ ما في السموات والأرض مُلكُه، وتحتَ سلطانه، فلا يَحتاج لإيمانكم، وكان الله عَلِيمًا بما يُصلح عباده، فيما يأمرهم به من الحقّ، حكيمًا في أحكامه على عبادِه.
[1]) الجار والمجرور في قوله (بِعِلْمِهِ) صفةٌ لمفعول مطلق مؤكد لفعله مقدر، والباء للملابسة، أي أنزل عليك القرآن إنزالًا متلبسًا بعلم الله.
[2]) النساء: 137.
[3]) الصف: 5.
[4]) (أل) في الرسول للعهد، والظرف (بِالحقِّ) متعلقٌ بـ(جَآءَكُم)، ومِن في قوله (مِن ربِّكم) للابتداء، وخيرًا: منصوبٌ بعامل محذوف وجوبًا، أي: آمِنوا يكنْ إيمانكم خيرًا لكم.