المنتخب من صحيح التفسير -الحلقة 195- تابع سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

 الحلقة (195)

 

(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:140-142].

(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) يَمْسَسْكُمْ: يصبكم، واستعمال المضارع يمسَسْكم لما مضى مع ما يصيبُ المسلمين، أُخذَ مِن حكاية حالهم؛ لاستمراره في كل وقت، وفي كل معركة من معارك المسلمين، والقَرْح: الجراح والابتلاء (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) فقد أصاب عدوَّكم ما أصابكم من الألم والجراح والشدة، والجملة (فَقَدْ مَسَّ) ليست جوابًا للشرط، بل دالة على الجواب المحذوف، والتقدير: إن يمسسكم قرحٌ فاثبتوا، أي إنْ أصابتكم الجراح فاثبتُوا، ولا تضعفوا، فقد أصابهم مثل ما أصابكم (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) الإشارة في وَتِلْكَ إلى الاسم الذي بعدها، وهو الأيام، كما هو شائع في الضمائر المبهمة، التي يفسرها ما بعدها، عندما يُراد التفخيم، كما تقول: (في حديثه المتلفز قال الرئيس)، والأيام: جمع يوم، وهو هنا الوقت والزمان مطلقًا، وليس اليوم المتعارف عليه، و(اَلْ) فيه للعهد، أي الأوقات الخاصة المعهودة، أوقات النصر (نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) من التداول، وهو التعاقب، ومنه جاءت الدَّولة والدُّولة بالضمّ والفتح؛ لتعاقب السلطان والحكم فيها بين الناس، فاللفظان بمعنى واحد، وقيل: الدولة بالضم تداول المال، كما في قوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ)([1])، وبالفتح تداول الحكم والسلطان وتعاقبه، ومنه أيضًا قولهم: الأيام دُوَل، أي: تتعاقبُ بالخير والشر، والعسر واليسر، كما قال القائل:

فَيَومٌ عَلَينا وَيَومٌ لَنا              وَيَومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسَرُّ

والمداولةُ كالمعاودة وزنًا ومعنى، ومنها جاءت المداولة في الأحكام، لما فيها من التعاقُبِ في الكلام للوصول إلى صيغة الحكم والقرار، والمعنى: وتلك الأيامُ نُصرِّفُها بين الناس مَرةً ومرة، لا تدومُ لأحدٍ، فهي ماضيةٌ على سننِ الله، يصيبُ المسلمون ويصابُ منهم، ولكن العاقبة والغلبة لهم؛ لأن وعد الله تعالى لهم بالغلبة لن يتخلف، قال تعالى: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)([2])، وقال تعالى: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا)([3])  (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على مقدر، دلَّ عليه الكلام، يبتليكم بتداول الأيام، ليكون النصر لكم تارة، وعليكم أخرى، وليعلم الله الذين آمنوا، أي: ليظهر ما علمه الله منكم، فيتميز مَن عمل بمقتضى إيمانه؛ فثبت وصبر على ما أصابه، ممن كان على خلاف ذلك (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) الشهداء: جمع شهيد، وهو قتيل المعركة لإعلاء كلمة الله، والمعنى: ليظهر علم الله لكم بذلك، وليتميز من اصطفاه منكم، واختاره للشهادة، وفي التعبير بالاتخاذ المنسوب إلى الله، الذي هو بمعنى الاصطفاء والتشريف، ما تقرُّ به عين الشهيد؛ لأن من اتخذ شيئًا لنفسه فقد اختصه بعنايته، ورفع شأنه (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) من الكفرة والمنافقين، وعدم محبتهم دليل على أنهم عندما يَغْلِبُونَ فالله تعالى لا ينصرهم على الحقيقة، وإنما يُغلّبهم استدراجًا لهم، وابتلاءً وتمحيصًا للمؤمنين.

 (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) يمحّص: من المحصِ والتمحيصِ، وهو: التخليص والتنقية والتطهير من الذنوب، ومما يشوبهم من الفتور، والمحق: التنقص شيئًا فشيئًا، الذي ينتهي إلى الذهاب بالكلية، ومنه المحاق، الذي ينتهي إليه تناقصُ رؤية القمر، إلى أن يختفي عن النظر، وفي الابتلاء بتداول الأيام تزكيةٌ وتطهيرٌ للمؤمنين من الذنوب، وتعظيمٌ للأجور، ومحقٌ للكافرين بإذهابِ كيدِهم، وانكسارِ شوكتهم، واضمحلالِ ملكِهم وباطلِهم.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)([4]) مِن في قوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ) للتبعيض، فتفيد أن الأصل في الجهاد أنه مِن فروض الكفاية؛ لأنه على طائفة منهم، لا على جميعهم، والمعنى: أنّ الأمر في التمحيص أبْعد من تداول الأيام بينكم، بالنصر تارة والغلبة عليكم أخرى، بل أتظنون أن تدخلوا الجنة، والحالُ أنه لم يظهر بَعدُ ما علمه الله، ويتبين جهادُ مَن جاهد منكم، وقعودُ مَن قعد وخذل المسلمين، وصبْرُ مَن صبرَ وثباتُه عند لقاء العدو، لا تظنّوا هذا، ولا تعتقدوا دخولَ الجنة قبلَ التمحيص في ميادين الجهاد، فلا تُنالُ الراحةُ إلا بتركِ الراحة؛ كما قال القائل: لن تبلغَ المجدَ حتى تلعَقَ الصّبر.

 

[1]) الحشر:7.

[2]) الصافات: 73.

[3]) الفتح: 22 ،23.

[4]) (أَمْ) هذه المنقطعة بمعنى بل، أفادت هنا انتقال الكلام إلى ما يزيده قوةً، والهمزة للاستفهام الإنكاري، وجملة: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا) حالية، و(لَمَّا) مثل لم، كل منهما أداة نفي وجزم للفعل، إلا أن (لَمَّا) فيها مع إفادة النفي للماضي معنى التوقع في المستقبل، وهي آكد في النفي من لم؛ لأن النفي بها يستمر إلى زمن التكلم، لذا تكون جوابًا لنفي ماضٍ مؤكد، فتقول: (لمَّا يفعل) جوابا لمن قال: قد فعل، بخلاف لم، فهي نفي محض لماضٍ غير مؤكد، تقول: لم يفعل، جوابًا لمن قال: فعل فلان.(وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) الواو واو المعية، حيث نصب الفعل بعدها بأن  مضمر

التبويبات الأساسية